في الملف الذي نشرناه في يوم افتتاح «بيروت ترنّم»، قدّمنا بإضاءة مختصرة على الأمسية التي تقام غداً الخميس. أشرنا وقتها إلى بعض المبالغة التي اعترت تقديم المدير الفني للمهرجان، الأب توفيق معتوق، لهذه الأمسية بقوله إنها «أمسية غير اعتيادية، لا يشهدها المشهد الثقافي في لبنان عادةً»، ووعدنا بالعودة إلى هذه النقطة، من باب التذكير ومتعة الدقة فقط لا غير.الأمسية الذي نحن بصددها هي لعازف التشيلّو بيندكت كلوكنر (1989 ــــ الصورة). الموسيقي الألماني سيؤدّي جبلاً من المقطوعات (36) التي خصّ بها مواطنه باخ آلة التشيلّو، أي «متتاليات التشيلّو الستّ» وهي بالمناسبة شهيرة جداً لكنها معروفة قليلاً! معروفة قليلاً، بمعنيَين: الأوّل، هو أنّ معظم الناس الذين لديهم حد أدنى من حب السمع، يعرفون هذا العمل لكن غالبيّتهم توقّفت عند مقدِّمة المتتالية الأولى! وهذه المقدّمة «سبّبت» شهرتها صعوبة العمل على مستوى السمع. فهي بسيطة وسلسة وجميلة، لكن «يكفي تشيلّو» لليوم، وغداً نبدأ منها ونتوقّف بعدها، وهكذا دواليك. زاد من هذا الواقع استخدام هذه المقدمة تحديداً في العديد من الأفلام وحتى الإعلانات، وبقي ما يليها محصوراً بالسمّيعة الجدّيين. أما المعنى الثاني، فهو يطال كل البشر، طالما أن بابلو كازالس (1876 ــــ 1973)، «مكتشف» العمل (عام 1890) وصاحب أول تسجيل كامل له (بين 1936 و1939) بعد أكثر من أربعة عقود من الكدّ على فك شيفراته، ظل يعود إلى هذا «السرّ» حتى آخر حياته (هو الذي كاد يكمل قرناً في الوجود)، مبرراً بأنّه لا زال يشعر بأنه يحرز تقدّماً! وهنا يجب أن نحذّر من «صعوبة» الأمسية المرتقبة. صدقاً، لا تجلدوا أنفسكم إن كنتم من الذي لا يطيقون صوت التشيلّو وحده، فهذا أسوأ ما في العلاقة بالموسيقى.
أما في ما خصّ أنّها أمسية «غير اعتيادية، لا يشهدها المشهد الثقافي في لبنان عادةً»، فيمكن اختصار المسألة بالتالي: عام 2019، في آخر دورة لـ «مهرجانات بيبلوس» قبل الانقطاع، أتى عازف التشيلّو النجم، يو-يو ما، وقدّم العمل كاملاً (المتتاليات الستّ) دفعةً واحدة، على شاطئ جبيل. أي، بالشكل والمضمون، تشبه تلك السهرة الأمسية التي سيقدّمها كلوكنر. قبل ذلك بسنة واحدة، حين قدّم «مهرجان البستان» تحيّته الأسطورية لباخ، سمعنا المتتاليات الستّ، لكن من عازفَين (مرموقَين) وخلال أمسيتَين: أنطونيو مينيسِس عزف الأرقام 2 و4 و6 في المتحف، وبعده بيومين تابع فيكتور جوليان-لافريير مؤدياً الأرقام 1 و3 و5 في إحدى كنائس قرية «مْعاد». نبقى في «البستان» ونعود، أولاً، إلى عام 2008 وأمسية الفرنسية البارعة أوفيلي غايّار التي اكتفت بالمتتاليات الثلاث الأولى وسط الشموع في كنيسة أثرية في منطقة إدّة، ثم ثانياً، إلى عام 1995 حين قدّم عازف التشيلّو الأوّل في «لندن الفلهارمونية»، تيم هيو، المتتاليات الست في يومٍ واحد، لكن… ثلاث منها (1 و2 و5) «ماتينيه» والبقية «سواريه»! في الحرب، كنّا في الملاجئ، وقبل ذلك لا نعلم الكثير. أضف أن إدراج إحدى المتتاليات في أمسية، مسألة رائجة نسبةً إلى وضع البلد وعلاقته بالكلاسيك الغربي (آخرها السنة الماضية).

*ريسيتال تشيلّو لبينيكديت كلوكنو ضمن «بيروت ترنّم»: غداً الخميس ــ الساعة الثامنة مساءً ــ «كنيسة القديس يوسف» (مونو ــ الأشرفية). الدعوة عامة. للاستعلام: www.beirutchants.com