«باريس ولا مكان آخر» عنوان معرض يحتضنه «متحف تاريخ الهجرة» في باريس، يضيء على الحركة الفنّية التي شهدتها عاصمة الأنوار بين عامَي 1945 و1972، أي الفترة التي احتضنت فيها هذه المدينة الفنية والثقافية بامتياز نحو 15 فنّاناً، معظمهم غير فرنسيين أسهموا في تعزيز سمعة المدينة ونشاطها الفنّي لعقود. كانت باريس في تلك الفترة مقصداً لفنانين كبار من بلدان أوروبية أمثال الإسباني بيكاسو والإيطالي مودلياني، فضلاً عن فنانين فرنسيين من خارج عاصمتهم أمثال ألبير ماركيه وجورج براك. يضمّ المعرض أعمال 24 فنّاناً هاجروا إلى باريس وأقاموا فيها لفترات متوسطة أو طويلة أو دائمة، لدوافع متنوّعة تراوح بين الدراسة واللجوء السياسي. ينتمي هؤلاء الفنانون إلى جهات العالم الأربع، فبينهم اللبناني شفيق عبّود، والمغربي أحمد الشرقاوي، والأرجنتينيّة أليسيا بينالبا، والسنغالي إيبا ندياي، والبرتغالية هيلينا فييرا دا سيلفا، والصيني زاو ووكي وغيرهم. كانت باريس محطّة انطلاقهم فنّياً، ومكاناً عمّقوا فيه معارفهم الفنّية واطلعوا على تجارب حديثة. وهدف هذا المعرض أن يروي هجرة هؤلاء سيراً وأسباباً وتجارب.تركيزنا هنا هو على تجربة الفنّان اللبناني الرائد شفيق عبود (1926 ــــ 2004) الذي قصد باريس عام 1947، حيث اكتشف أعمال الرسام بيار بونار نابيس، فضلاً عن روجيه بيسيير ونيكولا دو ستال. قبل مغادرته إلى باريس حيث ظلّ هناك حتى رحيله، كان عبود قد درس الفنـون ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ في «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا) في بيروت بين عامَي 1945-1947 وتتلمذ على يد الرائد قيصر الجميل والفنان الفرنسي جورج سير اللذين كانا من مؤسّسي الحركة الفنية الحديثة في لبنان. تمرس عبود في باريس في محترفات فرنان ليجيه واندريه لوت، فضلاً عن متابعة دراسته في المعهد الوطني للفنون الجميلة.
لدى وصول شفيق عبود إلى باريس، أدهشته الحداثة الفنية والتيّارات التجريديّة التي كانت سائدة آنذاك أواسط القرن العشرين. تأثر بهذه الأجواء، فنقل ثقافته اللبنانية إلى لوحاته التي طغت عليها طبيعة بلاده، إنّما في منحى تجريديّ. احتفظ بجذوره الشرقية ونهل من حكايات جدّته الشفوية ومن الأيقونات البيزنطيّة. لم يطل الأمر حتى نال اعترافاً بفنّه على نطاق واسع، ليغدو واحداً من رموز الحداثة الفنّية، حتى في باريس. تشهد على ذلك معارضه الكثيرة واحتفاظ لوحاته بنضارتها على مرّ العقود، جامعاً في أسلوبه التجريديّ اللون بالضوء كحلقة وصل بين لبنان وفرنسا، وبين الشرق والغرب، منخرطاً في الحياة الفنية الفرنسية ومناخها الثقافي والفني. إلا أنّه ارتقى بمرجعياته الفنية إلى مستوى الإشراق الصوفي، فأضاءت الأشكال في لوحاته على مزيج الوعي والمشاعر العميقة. وزد على ذلك المسحة الشعرية، وتداخل التراثي بالمعاصر، والمقدّس بالدنيوي، والمرئي بالمتخيل، ذهاباً بـ «النغم» اللونيّ إلى مستويات لا تتجسّد إلا بواسطة عين صافية.
احتفظ بجذوره الشرقية ونهل من حكايات جدّته الشفوية والأيقونات البيزنطيّة


مع تراكم الأعمال والتجارب، تحرّر شفيق عبود تدريجاً من مرجعياته تلك من دون أن ينقطع عن ذاكرة المراحل الأولى في بلده وبلدته. ابن المحيدثة مسقط الشاعر المهجريّ إيليا أبو ماضي، أصبح أيضاً ابن باريس، ولا يحتاج المرء إلى مزيد من الاقتراب من لوحته للتعرّف إلى توقيعه. أسلوبه الخاص والفريد كان توقيعه. علماً بأنّه لم يقع يوماً في فخّ التكرار. بذلك، يسعنا القول إنّ عبود كان أحد رموز حداثتنا الفنية، وفّرت له أعماله شهرة عربية وعالمية. جذوره الثقافية شكّلت وحدة عضويّة مع ثقافته الغربية من دون انفصام، ما أدهش النقاد والفنانين الفرنسيين.
لم يستسلم شفيق عبود البتّة للسهولة، ما رسخ مكانته مجدِّداً ومبتكراً فريد الأسلوب والمضامين. ورغم تبنّيه الأسلوب التجريبي، أبقى على الغنائية الخطية واللونيّة، فتجاوزت لوحته المسافات الضيّقة والدلالات المحدودة نحو الإيحاء غير المحدود. تنبض لوحاته بالغنائيّة الشعريّة وبعفويّة أسلوبيّة هي سرّ تماسك البنية في لوحاته. ونشير هنا إلى مرجع جدّي صدر في بيروت بالفرنسية، لباسكال لاكوريل، يفي شفيق عبود حقّه وموقعه المميز في الحركة التشكيليّة اللبنانية، الحديثة والرائدة، وإنْ في إقامته الباريسية المديدة.

* «باريس ولا مكان آخر»: حتى 22 كانون الثاني (يناير) ــــ «متحف تاريخ الهجرة» (باريس) ـــ histoire-immigration.fr