كلما مرت الأيام، كلما اشتدّ الخناق على المسرح. الفضاءات، يداهمها شبح اللقفال، بين الحين والآخر. والعاملات والعاملون في المسرح، مستمرون، بما أوتي، من حلم الاستمرار. رغم كل ذلك، كان لافتاً عودة العروض المسرحية، بزخم في عام 2022، تحديداً في الربع الأخير منه. «المدينة»، و«مونو»، و«دوار الشمس»، و«زقاق»، و«مترو المدينة» وغيرها، استمرت المسارح في جذب الجمهور، وتقديم العروض، لتكون متنفسنا الأخير، في هذا المدينة، التي تشهد تحولات وتغييرات. كانت بداية عام 2022، مشرقةً، مع استقبال بيروت، المخرج المسرح الكويتي سليمان البسام، والعرض المسرحي الحر، «آي، ميديا». أدخلنا في عالم متلاشٍ، ومهجورٍ، وهشٍّ، ضمن بلورة فنية معاصرة لـميديا، إحدى أشهر تراجيديات الكاتب المسرحي اليوناني يوربيدس (480 – 406 ق.م). وقدم صورة مختلفة للهجرة واللجوء، وقلب منظومة الرأسمالية الغربية، رأساً على عقب. على صعيد آخر، عاد سامي خياط، إلى «مونو»، وقدم الكوميديا الساخرة «وَلاو»، ومرَّ بطرافته على أحداث عاشها المواطن اللبناني، فكان انعكاساً للجمهور والمشاهد. وحشد النجمان الصاعدان محمد دايخ وحسين قاووق، وقدما فرصة لجمهورهما على السوشل ميديا، لمشاهدة المسرح ضمن مسرحية «السبعة ودمتها».
جائحة كورونا، الثورة، وانفجار 4 آب... هذه الأزمات وما رافقها من تداعيات وتعقيدات، كانت محور «أربعة أمتار مربّعة للتحدث»، الذي ضم ثلاثة عروض مسرحية قصيرة، جرى انتقاؤها بعدما دعت جمعية «شمس»، عدداً من الكتّاب المسرحيين المقيمين في لبنان، إلى كتابة مسرحية قصيرة بالعربية المحكية. ومن أصل 26، جرى اختيار ثلاثة عروض هي: «نحن وناطرين نوح» (كتابة كريم شبلي وساره عبده)، و«وكأن عايشين» (كتابة: جورج عبود)، و«أنا» (كتابة: نور سعد). لم يكن لهذه المسرحيات، أي تأثير على الجمهور، خصوصاً أنها قدمت على نطاق زمني ضيق، من دون تكريس أي رؤية لاستدامتها، وظلت في خانة دعم الفنانين ومحاولاتهم. إلاَّ أنها حملت مواجعنا في أحيان كثيرة، وأعادتنا إلى مصيرنا المحتم، الذي يكون على هيئة موت، أو قلق أو حزن أو فراق أو اغتراب.
لم تغب المسرحيات المبتذلة عن خشبة «مونو». مسرحية «مفروكة» كانت اختياراً ساذجاً، لموضوع النساء المطلَّقات من الطبقة الوسطى، تحديداً. دخل في دهاليز المحاكم الروحية، وقانون الأحوال الشخصية، ومأساة المطلّقات ومعاناتهن مع هذه المحاكم، التي تعشّش البيروقراطية في أرجائها، لكنه لم ينزل إلى القعر، حيث تغرق النساء من الطبقة الفقيرة في الكثير من العذابات. في المقابل، قدم المخرج اللبناني حمزة حمادة مسرحية «طلب تعيين» للراحل الفرنسي ميشيل فينافير. قدم حمادة تناسقاً مسرحياً شكلياً، مع كمية العنف الموجودة في النص، ليخرج المتلقي حاملاً الكثير من التساؤلات عن وحشية الأنظمة السياسية، أو الاجتماعية... وقدرتها على التحكم بحياتنا. كما، قُدم نص مسرحية «ألو؟؟» (إخراج هاغوب در غوكسيان ـ أداء أنجيلا خليل)، عن النص الأصلي «الصوت البشري» للكاتب الفرنسي جان كوكتو، فكان نصه أشبه بثورة في عالم الهشاشة البشرية، يحيلنا إلى التفكير في الوجود والإنسان.
لم يغب الجسد وأدواته عن مسارح لبنان. اشتبك مع الراهن، وكان سيّداً لإمكانات الإبداع. أعاد «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر- بايبود»، السؤال عن دور الثقافة، وكيف يمكن لها أن تتداخل وتنخرط في المجال الاجتماعي والسياسي، من دون فقدان قيمتها الفنية، ورفع المهرجان هذا العام شعار العصيان الثقافي.
قدمت كارولين حاتم «العادلون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، لتحاكي الثورة التي عاشها كثيرون، مع «انتفاضة تشرين 2019». وجالت به على عدد من المناطق اللبنانية المهمشة والمحرومة، في خطوة تسعى إلى تعزيز اللامركزية الثقافية. إلى ذلك، حضر طيف المغنية الفلسطينية، ريم بنّا، في عرض «يا ليل ما أطولك» (إخراج: سليم الأعور. إعداد وتمثيل: روان حلاوي) الذي قدّم احتفاءً بحياة ريم بنا، وتكريماً لمسيرتها النضالية. وعادت الممثلة اللبنانية كارول عبود إلى المسرح، بعد غياب، في عرض «حفلة موسيقية لامرأة وحيدة»، للمخرجة السورية لارا أيلو، عن نص المسرحي الإيطالي داريو فو. المرأة في هذا العرض، لم تكن مدعاة لإثارة الشفقة، بل كرست رحلة النساء اللواتي ألحق بهن المجتمع أضراراً، على مستويات عديدة.
ربما كان عرض لينا أبيض، «آخر سيجارة» دعسة ناقصة تحتاج إلى كثير من التفكر عما يجب تقديمه، لاحقاً، في حين قدم الممثلان فؤاد يمين وسيرينا الشامي، مسرحية «خليها بيناتنا». أما أنطوان الأشقر، فقد عمل على مسرحة قهرنا ومواجعنا وأملنا، في «توك توك»، المقتبسة عنّ نص الكاتب الفرنسي لوران بافي. ومن ابرز المحطات المسرحية في عام 2022، كانت مسرحية «رحيل» لغابريال يمين، التي جمعت 23 شخصية ضمن كوميديا كورالية، تقاطعت فيها الكآبة والقسوة والحنان، بوتيرة جنونية. وفي هذا السياق، قدمت مسرحية «شي متل ل كزب» (إخراج، وإعداد وأداء: يارا زخور، وأدون خوري)، المقتبسة عن مقاطع شعرية من ديوان «ألوان مش ع بعضا» (1990) للشاعر الراحل موريس عواد، في إطار الكوميديا السوداء.
كان بارزاً أيضاً، اطلاق مهرجان «أرصفة زقاق»، الذي شكل حركة ثقافية لافتة. جمع المهرجان، عدداً من الأجيال، وقدم عروضاً مسرحيّة وأدائيّة، وأعمالاً تجهيزيّة تفاعليّة، وأمسيات موسيقية. وأعادت مسرحية «لعلّ وعسى» الممثلتين اللبنانيتين، حنان الحاج علي ورندا أسمر، اللتين استعادتا لحظات من الأرشيف، لإعادة تشكيل ذاكرة بيروت، وخارطة مسارحها التي لم تعد موجودة. كذلك استضاف «دوار الشمس»، عرض «شمس ومجد» للمسرحي السوري، أسامة غنم، بالتعاون مع «مختبر دمشق المسرحي»، و«المورد الثقافي»، على مدى عرضين متتاليين، أدخل الجمهور اللبناني، في شكل مسرحي ذي خصوصية يفكك سرديات البؤس، والطبقات المتعددة...
عام مسرحي، زاخم بالعروض المتنوّعة، على مستوى الشكل والمضمون. يتطلع المتفرجون، في 2023، إلى عام مليء بعروض مسرحية، تكون أكثر مساءلةً للواقع الراهن، تحفز الخيال، وتثير الأفكار، بعيداً عن منطق الاستهلاك، وجذب الجماهير. كما يتطلع الجمهور إلى تكريس المساحات والفضاءات، لتلبي تطلعات الفنانيين الصاعدين على تقديم انتاجاتهم. وتحتّم علينا الظروف العالمية الصعبة، وشح التمويل، التفكير في استدامة ثقافية، واستقلالية تامة، لإنتاج عروض مسرحية خالصة وأصيلة.