لا أحد يمكنه إنكار أن الدراما البريطانية قد قدّمت عمالقة أداء للسينما في هوليوود، لكن في الإطار عينه لم تكن السينما البريطانية على القدر نفسه من النجاح مقارنة بنظيرتها الأميركية أو حتى الهندية الناطقة بالإنكليزية. مع بداية تسعينيات القرن الماضي، تنبه البريطانيون إلى أنّهم يتفوقون في إنتاج مسلسلاتٍ متميزة، لا يستطيع الأميركيون إنتاجها، فجاءت مسلسلات مثل «دكتور هو» (doctor who)، أحد أنجح وأهم المسلسلات البريطانية، ليعقبها مسلسلهم الأهم تقنياً/ دراميا Black Mirror الذي أعاد تقديم الأكشن/ الخيال العلمي/ الديستوبيا على طريقته الخاصة والمختلفة في آنٍ. درامياً، نجح مسلسل secret diary of a call girl في أن يكون نجمهم الأنجح مترافقاً مع «شيرلوك»، «بيكي بلايندرز»، «داون تاون آبي»، و«التاج» وسواها. هذه النجاحات جعلت الدراما البريطانية ناجحةً ومرغوبة للغاية، لذلك لم يكن غريباً أن يكون مسلسل «أنا أكره سوزي» (كتابة لوسي بريبل وبيلي بايبر، واخراج جورج بانكس ديفيز وانتوني نيلسون وإنتاج شبكة «سكاي» التلفزيونية)، عميقاً، درامياً، ومزيجاً بين الحزن والتناقض في آنٍ معاً.يحكي المسلسل حكاية النجمة التلفزيونية ونجمة أغاني البوب الشبابي سوزي بيكلز التي تم تسريب/سرقة صور «ذات طبيعة حساسة» من هاتفها. انتشار الصور يشبه حادثة الـ Fappening الشهيرة قبل أعوام حين تم اختراق «سحابة» شركة أبل، وتسريب آلاف الصور لمشاهير من هوليود وحول العالم، وكانت الصدمة كبيرة آنذاك. يحكي المسلسل عبر حلقاته الثماني، المراحل الثماني للصدمة (Trauma) التي يمر بها الإنسان وبطلة المسلسل في آن معاً. لذلك جاءت عناوين الحلقات على الشكل التالي: الصدمة، الإنكار، الخوف، الشعور بالخطيئة، المساومة، الشعور بالذنب، الغضب، التقبّل.
يروي المسلسل كيف تتعامل في كل حلقة مع هذه المشاعر الكثيرة والحادة والعنيفة في آن، وعلى عادة الدراما البريطانية التي تقدم مدرستها الخاصة الواقعية للغاية في رسم الأحداث. إذ إن سوزي مثلاً تعيش حياة واقعية للغاية، تغضب وتفرح، وتكذب وتتجمل. في الحلقة الثانية مثلاً المسماة «الإنكار»، هي تنكر فعلياً في لقاء مباشر مع «جمهورها» أن هذه الصور لها، فيما هي تعرف بأن هذه الصور لها، والجمهور يعرف كذلك. هذا الإنكار يضعها أمام جمهورها الذي يعتبر بأنها خانته ولا تثق به، مما يعقّد الأمر أكثر. طبيعة النص/ الحوار في المسلسل تجعله قوياً للغاية، إذ إننا نقف أمام حياة الممثلين/ المؤدين/ النجوم الخاصة والعامة: إنهم يمثلون في كل شيء وفي كل الأوقات، حتى وهم في أحلك ظروفهم. يصبح التمثيل جزءاً رئيسياً من حياتهم، فلا يستطيعون أو لا يعرفون حتى متى يتوقفون عن ذلك، حسبما تقول سوزي لصديقتها الأقرب ومديرة أعمالها نايومي (ليلى فرزاد).
أدائياً، بيلي بايبر هي واحدة من أهم نجمات الدراما البريطانيات، ولربما أفضلهن على الإطلاق حالياً. تمتلك الممثلة البريطانية القدرة على أن تلبس الشخصية أمامها لدرجة يقتنع المشاهد بأنها «سوزي» وليست بيلي نهائياً. هذا الأمر أهلها للترشّح لجائزة أفضل ممثلة ضمن جوائز البافتا في العام 2021. إنها تدخل الشخصية ضمن المدرسة البريطانية التي تسمى: method acting حيث يغيب الممثل لحساب الشخصية، هي ترتدي سوزي وتصبح هي بكل لحظات ضعفها وقوتها، حتى استعمال المكياج يكون لغرض تضخيم الشخصية أو تصغيرها، هي لا تهتم بجمالها أبداً، فنراها في حلقاتٍ كثيرة بلا مكياجٍ، لتقديم صورة الإنكسار الكامل الذي تعيشه بطلتها. يذكر أن بايبر قد مرّت في معظم المسلسلات البريطانية المهمة وكانت جزءاً لا يتجزأ من نجاحاتها: هي كانت روس تايلور في مسلسل «الدكتور هو»، وبيل دو جور في Secret Diary of a Call Girl، وبرونا كروفت/ليلي في «بيني دريدفول»، وكارين مارس في Collateral الذي أنتجته نتفليكس ورشحت بايبر عليه لجائزة أفضل ممثلة مساعدة في البافتا البريطانية. كان دخولها المسرح من الباب العريض حين فازت بـ «جائزة لورانس أوليفيه» كأفضل ممثلة عن دورها في مسرحية «يرما» للكاتب الإسباني فرديريكو غارثيا لوركا في العام 2017. ليلى فرزاد، الممثلة البريطانية من أصل إيراني، بدورها نجحت في أن تكون بمستوى الحدث والمسلسل، وهي فعلياً تقدم أداء قوياً في مواجهة بايبر التي تمتص نور «الكاميرا/الشاشة» فعلياً. فرزاد رشحت هي الأخرى لجائزة أفضل ممثلة مساعدة عن المسلسل ضمن جوائز «البافتا».
تقنياً، لا يختلف المسلسل عن معتاد الدراما البريطانية: قصة قوية مسبوكة، حوار جدي عميق، أداء ممتاز من الممثلين، مع الإهتمام بصناعة الشخصيات حتى الهامشية، مع التركيز على أن لا تكون الشخصية مسطحة أو واقعية -حتى الجانبية منها-، وفوق كل هذا خلق بيئة واقعية تجعل من المسلسل يومياً/واقعياً، فلا يشعر المشاهد انه يرى شيئاً غير واقعي. يخلط المسلسل بين عالم البطلة الخاص والعلني: فنشاهدها تناقش حياتها الشخصية وهي تصوّر أحد أفلامها. هنا تحضر إلى الواجهة الحياة متعددة الشخصيات التي يعيشها الممثل: عليه أن يكون شخصية مختلفة بكل جوارحها، صفاتها، ومن تكون، وفي لحظة أخرى عليه أن يكون «حقيقته»، هذا الأمر شديد التعقيد والصعوبة، يجعلنا نفهم غرق كثير من الممثلين في الاكتئاب وحاجتهم لعلاجٍ نفسي أو أدوية ناهيك بالمخدرات والكحول وسواها من الأساليب التي يستخدمونها لإراحة أعصابهم، والهروب من الضغوط. يغوص المسلسل في تفاصيل الحياة الفنية لشخصية مشهورة، ويظهر لنا أنّ خلف الواجهة البراقة، تقبع حياة ليست ممتعة أو مرغوبة: صحيح أن الشهرة تأتي بالمال والراحة المادية لكنها تحضر معها الكثير من التفاصيل غير المرغوبة والمرعبة في آنٍ. بالتأكيد قد يتمنى القارئ/ المشاهد هنا أن يبدّل حياته الصعبة/التقليدية/المعتادة/الروتينية بتلك التي يمتلكها فنانون مشهورون لناحية الأموال الطائلة، والبيوت الفارهة، والرحلات والحفلات الباذخة: لكن ذلك ليس كل الحكاية، وهذا ما يظهر مسلسل «أنا أكره سوزي» بكل ما فيه من تفاصيل. يذكر أن المسلسل قد جدد لموسمٍ ثانٍ تحت مسمّى «أنا أكره سوزي أيضاً» وقد بدأ عرضه على شبكة «سكاي أتلانتيك».
***
يعرض المسلسل على شبكة «سكاي» البريطانية و«ناو» وHBO Max