«حين بلغت الخامسة/ كنت قد حاربت في مئات المعارك/ وقتلت الآلاف/ وتكبدت العديد من الجراح/ لكنني كنت أنهض وأحارب ثانية/ بعد غارة القصف كانت السماء مليئة/ بالجمر المتطاير والعصافير/ أخذتني أمي من يدي/ وقادتني إلى الحديقة/ حيث كانت أشجار الكرز مزهرة/ كانت هناك قطة تنظّف نفسها/ أردت أن أجرّها من ذيلها/ لكنني تركتها لحالها للحظة/ لأنني كنت مشغولاً بقتل الذباب/ بسيف من الورق المقوى/ كل ما كان يعوزني هو حصان أمتطيه/ مثل ذاك المربوط إلى عربة الموتى/ خارج كومة من الأنقاض/ حتى رأسه، ينتظر/ أن ينتهوا من تحميل التوابيت» (من قصيدة «جندي قديم» ـ ترجمة الشاعر سنان أنطون)غيّب الموت أول من أمس الشاعر تشارلز سيميك (١٩٣٨-٢٠٢٣) أحد أبرز الأصوات في المشهد الشعري الأميركي والعالمي المعاصر. ولد سيميك في العاصمة اليوغسلافية بلغراد في قلب الحرب العالمية الثانية والاجتياح النازي لبلاده، ما دفعه لاستحضار ثيمات الحرب والقسوة لاحقاً في الكثير من قصائده. والد سيميك اعتُقل لمرّات عدة قبل أن يتمكن من الفرار من يوغسلافيا عام ١٩٤٤ حيث سيسجن ويُطلق سراحه عند انتهاء الحرب ليسافر بعدها إلى أميركا، لكن لن يلتم شمل الأسرة حتى عام ١٩٥٤. نشوء سيميك في منطقة البلقان المتموضعة على فالق زلازل العرقيات والأيديولوجيات والصراعات المستمرة، والرازحة تحت ثقل التاريخ، دفعه ليكتب في دفتر يومياته: «التّاريخ كتاب في فنّ الطّبخ، الطّغاة هم الطّباخون، يكتب الفلاسفة قوائم الطعام، القساوسة هم النّدلاء، العسكر هم المتبجّحون، إنّ الغناء الذي تسمعه هو للشّعراء وهم يغسلون الأطباق في المطبخ»، مما سيجعل من قصائده «فندقاً للأرق » (عنوان أحد كتبه الصادر عن «المركز القومي للترجمة»، ترجمة أحمد شافعي، 2017)، أو كما يقول المترجم الأردني تحسين الخطيب في أحد حواراته مع الشاعر في كتاب «المسخ يعشق متاهته» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٥) بأنّها تبدو كأنّها «تحيا على الحافة- في الحواشي، وعميقاً حولها حيث كل شيء يترنّح على حافة كل شيء، على ذلك الجسر المعلّق بين الزمن والتاريخ، وبين الزمن والأبدية كما لو تصبح اللغة بحدّ ذاتها تلك الحالة البرزخية الموقتة لما لا يوصف أو يُنقل. كما لو أنّ القصيدة ذاتها ليست سوى ذلك الصوت الذي يسمعه المرء عميقاً في الليل».


إذا كان سيميك قد خرج سليماً معافى من جرح الانسلاخ عن موطنه الأول الذي قلما يشير إليه في القصائد التي سيكتبها في مجموعاته الكثيرة، من «ما يرويه العشب» (١٩٦٧)، و«في مكان ما ثمة حجر يدوّن الملاحظات» (١٩٦٩) و«تفكيك الصمت» (١٩٧١) و«مراقص كلاسيكية» (١٩٧١) وصولاً إلى أعماله المتأخرة مثل «قرد في الجوار» (٢٠٠٦) و«ذلك الشيء الصغير» (٢٠٠٨). إذ تخطى مجموع أعماله 80 كتاباً بين الشعر والنقد والترجمة، إلا أن الطفولة في أجواء الحرب والاحتلال تلقي بثقلها على الوعي الداخلي للشاعر ومختبره الداخلي وسيرته الذاتية «ذبابة في الحساء» (ترجمة إيمان مرسال ـ «دار الكرمة»، ٢٠١٦).
الشاعر المتشرد في بلاد المغامرة الأميركية وتحديداً في نيويورك، سيشغف أول نشأته بالغموض الشعري وسيتخذ من أسلوب هارت كراين (1899-1932) في تراكيبه الضبابية وعصيانه على الفعل، مثالاً شعرياً أعلى ليبدأ أولى محاولاته الشعرية مقلّداً كراين «ومستعيناً بكل الألفاظ الصعبة الممكنة من قانون المترادفات، حتى أصل إلى مرحلة لا يمكن لأحد، بما فيهم أنا، فهم شيء من القصيدة». نشرت مجلة «شيكاغو ريفيو» في شتاء ١٩٥٩ بعض أشعاره المكتوبة إبان إقامته القصيرة في شيكاغو. بعده إمضائه سنتين كمجنّد في الجيش الأميركي (١٩٦١)، سيحدث تغير راديكالي في نظرته للوجود والشعر. بعد نيله درجة البكالوريوس من جامعة نيويورك عام ١٩٦٦، نرى سيميك في مجموعته الأولى «ما سيقوله العشب» يقتل «أباه» الشعري لينطلق إلى نوع من البساطة المركبة التي يصفها الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش في تقديمه لكتاب سيميك «العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب» (٢٠٠٨ ــ «منشورات الجمل » ومنشورات «كلمة »): «البساطة عند سيميك هي بساطة مركّبة، فبوصفه مثقفاً واسع الاطّلاع، خصوصاً على الفلسفة (لديه ولع خاص بهايدغر)، ومترجماً متعدّد اللغات تشرّب التجارب الأوروبية المهمّة ومن بعدها الأميركية، وبوصفه أيضاً متعدّد الهويات والأماكن، كل هذا أسهم في خلق هوية شعرية خاصة جداً تمزج أحياناً بين عناصر وعوالم تبدو أحياناً متناقضة مثل السريالية والواقعية، الفلسفة الوجودية والسياسة، الطبيعة والمدينة ». تخرج من هذه البوتقة المتنوعة لغة شديدة البساطة والسلاسة، لكنها محيرة في دفعها القارىء نحو التأمل: «أيها السيدات والسادة/ ستسمعون نجمة/ ميتة منذ مليون عام/ في حوصلة طائر».
خلق هوية خاصة جداً تمزج أحياناً بين عناصر وعوالم تبدو متناقضة

إنها لغة تخلق قاموسها الذي لا يستثني شيئاً من أصغر الأدوات المادية إلى أكبر المفاهيم الفلسفية لاستقراء العالم، كما في قصيدة «ماذا قال الغجر لجدتي عندما كانت صبيّة» (ترجمة السوري أحمد محمد أحمد الذي نقل إلى العربية كتاب سيميك «العالم لا ينتهي» عن «الهيئة السورية العامة للكتاب»): «حربٌ، وباءٌ ومجاعةٌ ستجعلُ منكِ حفيدتها الأثيرة/‏ ستكونين مثل‎ ‎أعمى يشاهد فيلماً صامتاً/‏ ستفرمين بصلاً ونُتَفاً من قلبك/ وتلقينَ بها في نفس المقلاة الحاميةِ/ سينام أطفالُك في حقائبِ سفرٍ موثقةٍ بحبل/ وسيلثمُ زوجُكِ ثدييكِ كلَّ ليلة/ كما لو أنهما شاهِدَتا قبر/ بل ها هي الغربانُ تَتَهيّأُ لكِ ولذويكِ/ سيتمدّدُ ابنكِ البكرُ والذّبابُ يغطّي شفتيه/ دون أن يبتسم أو يرفع يدَه/ ستحسدين كلَّ نملةٍ تلتقينَها في حياتك/ وكلَّ عشبةٍ نبتتْ على جانب الطريق/‏ سيقبعُ جسدُكِ وروحُكِ على مقعدين منفصلين/ يمضغانِ العلكةَ ذاتها./ حلوتي الصغيرة، هل أنتِ برسمِ البيع؟/ سيقول الشيطان/ ‏وسيشتري مُحَضِّرُ الموتى دميةً لحفيدك/ ستكون ذاكرتُك عشَّ دبابيرٍ لحظةَ/ تتوسّدين فراش الموت/ ستضرعينَ في صَلاتِكِ إلى الله / لكنّ الله سيعلِّقُ لافتةً تقولُ:/ ممنوعٌ الإزعاج/ لا مزيدَ من المطالبِ/ هذا كلُّ ما لديَّ». بموت سيميك انفجرت حوصلة الطائر، وها نحن نسمع نحيب تلك النجمة البعيدة.

* (من قصيدة جندي قديم بترجمة سنان أنطون).