«في تلك الليلة الباردة/حمَل أوراق قصائده العتيقة/ وأطعمها للموقدة/ كتَبَ قصيدته الأخيرة لابنته/ عن بلاغة الدفء/ أصحو باكراً/ وأنتظر/ علّه يأتي ذاك المغامر/ يبتكر معي هذا العالم». يبدو زاهر العريضي قد عثر على الكلمة الشعرية المغامرة التي تُعيد ابتكار العالم في مجموعته الجديدة «شيفرة لعوالم أخرى» (دار نلسن). إنها مغامرة الشعر التي تخترق النقاط والفواصل والحروف إلى الجانب الخفيّ من الكلمة، إلى «الشيفرة» التي تفضي إلى العوالم الأخرى، عندما يعرف الشاعر-المغامر بتعبير الشاعر اللبناني الراحل فؤاد رفقة «كيف يصغي إلى لغة الكلمة الشعرية، كيف ينفتح عليها ويتركها تحكي وتعلن وجودها بحريّة، بدل أن يجبرها على أن تقول أشياء لا تقولها، في هذه اللحظة، يتحول صاحب هذه المغامرة إلى نقاوة كيانية تواجه نقاوة الكلمة الشعرية».

في بداية الكتاب الذي يحتوي على عشرين نصاً تتوزع بين الشعر والنثر، يعطينا العريضي مفتاحاً لفهم شيفرته من خلال إعلانه عن سوء التفاهم الدائم والفجوة القائمة بين الشاعر والأشياء. فجوة لا يمكن ردمها إلا بالشعر الذي يغدو محاولة للبوح في جرح الكلمات: «أحمل قلمي خوفاً من المسدّس/ أهرب إلى هنا/ كي لا أموت وحيداً/ دون أجوبة/ كأن تسأل: من أنت؟/ بيني وبين الأشياء/ سوء تفاهم دائم/ على شكل فجوة عميقة/ أردمها كل صباح/ وتتّسع كل مساء/ هكذا يمر نهاري/ كالمحكوم بالأشغال الشاقّة». تبدأ مغامرة الكلمة في تأسيسها للحقيقة البديلة على الأرض، بحيث تصير البيت الذي تسهر فيه الحقيقة وتنتظر، وحبل النجاة الذي يمتد إلى عناصر الكون ليعطيها الفرصة لتعيش في عالم أرحب وأوسع: «ما زلت أحاول أن أعطي البحر فرصة أخيرة/ للنجاة من الغرق/ كما للأشجار فرصة تعلم المشي/ كأنني أعطي نفسي فرصة أخيرة /لرمي الوهم في البحر».
بعد قصيدة أولى طويلة بعنوان «يوميات شاعر سابق»، ينتقل بنا العريضي إلى ومضات نثرية بعنوان «فواصل» تحتوي على شذرات تأملية وفلسفية مثل: «الصديق قصة معقّدة أيضاً كورطة لا بد منها» أو «المعنى يكون أحياناً عميقاً وضيّقاً، وأحياناً يتّسع كموجة عابرة فوق سطح الماء. ليس عليك أن تفهم كلّ شيء، فقد تخسر متعة المعرفة». قد تجنح هذه الشذرات قليلاً فتُخرج القارئ من الجو الشعري للقصيدة الافتتاحية، فنقرأ مثلاً في أحد الهوامش: «أي كلام هذا على المصطلحات الكبيرة! من منكم ليس لديه جموح إلى الديكتاتورية والسلطة والمال والجاه والفرعنة والإقصاء والقمع... أي ديموقراطية وانفتاح وحرّيات، تهلكون جماجمنا في الحديث عنها». لكن العريضي سرعان ما يعود إلى ضبط إيقاع شعري في القصيدة اللاحقة «سرديات مختصرة جدّاً» فنقع على مقاطع شعرية صافية: «يسقط الخريف قرب وسادتي/ أهديه كمّامة أنيقة/ من دون غمرة اللقاء/ لا مطر قريباً يبلل أطراف الحزن». يجيد العريضي في مقاطع أخرى عرض رحلته بين عالم الشهادة، أي العالم الفعلي، وعالم الغيب الذي تسحبه إليه رحلة الكتابة، إذ يزداد القارئ كما الشاعر حيرة على حيرة في الذهاب والإياب بين العالمين، بين الشاعر وقرينه: «من يكتب كل ذلك؟/ كأنني لست أنا/ بل آخر أراه/ أتأمله/ أسأله/ لماذا فعلت كل ذلك؟ كيف قمتَ بما قمت به؟ /كأنه ليس أنا/ بيني وبينه مسافة الموت/ بيني وبينه ذاكرة الزمن/ بيني وبينه فعل الندامة/ كأنه يمسك بيدي إلى كل ذلك/ أسأله في ذهول/ جوابه الصمت والدهشة/ كأنني هو/ وكأنه أنا/ وكأنّنا لسنا نحن».
نص نثري ذو شعرية عالية بعنوان «الأريكة الصفراء»


بعد نص شعري آخر بعنوان «تالا الصغيرة» يوجهه إلى ابنته الصغيرة، ينتقل العريضي إلى مجموعة من النصوص النثرية أبرزها «حائط الحيّ» و«ما قبل الهاتف» حيث يموضع الشاعر نفسه في الجيل الذي يقف على حافة التكنولوجيا التي أحدثت تغييراً جذرياً حتى في الخيال: «تخيّل نحن جيل ما قبل وسائل الاتصال الحديثة، ما قبل الواتساب والإنترنت وكل هذه التكنولوجيا، نجلس في السيارة في قمة قريبة من القرية ونشرد في بيروت. هنا مطار بيروت الدولي. الطائرات تقلع إلى اتجاهات متباينة، ونحن نشرد إلى أبعد بقعة ضوء. نحلم بالمدينة، نتخيّل ما يحدث هناك، ندخل في تفاصيلها»، أو أن تحضر الحرب من تجاويف الذاكرة في «لا أحد ينجو من الحرب»، أو الشعور بالحرية في السفر الذي يغسل الروح كما في نص «برشلونة مرة أخرى»: «موسيقى صاخبة... عليك أن تغامر وتأخذ فرصتك. مشيت كما لم أمشِ من قبل. تحدّثت كما لم أتحدث سابقاً، رأيت كما لم أنظر في أي وقت. عانقت وقبّلت وقلت وانتشيت، غنّيت... طرت كعصفور. طرت وكنت خفيفاً كورقة خريف، صافياً كنبع ماء، مغرّداً هائماً كوداعة طفل... كنت كما لم أكن يوماً. كأنّي في ولادة».
وكما في القسم الأول من الكتاب، وكي لا ينطفئ عصب الشعر المتوتر، يفاجئنا العريضي في نهاية المجموعة بنص نثري ذي شعرية عالية بعنوان «الأريكة الصفراء» فنقرأ: «ذاكرتي صفراء. أكتبها بعد أن لبسها الغبار. ينعشها صديق كلّ حين. نبوح بها بكثير من الشغف، نهرب إليها خلسة، نتهامس بها بفرح ونترك ابتسامتنا عند باب الحانة. ذاكرتنا صفراء على باب خريف العمر. تغرينا وتضيف رونقها إلى وجوهنا التي ما زالت حالمة، كأننا نقول: من لديه ذكريات جميلة فستكون كهولته ممتعة، تأمّل أيها المسرع، لن يكون ممتعاً أن تكون كالوجبات السريعة. القصص التي لن نقولها، ستكون الأجمل. عند حدود الأريكة، في ذاكرتنا أريكة صفراء، يتمايل لونها، ويبقى شغلها المغاير كبصمة خاصة نتكاسل هنا، كنوعٍ من التأمل، ونوغل فيما قبل، كأننا نرسم الأفق بغيوم تصنع لنا مطراً لشتاء ننتظره قبل دفء الذاكرة. المغامرات التي نسينا أن نقوم بها، الوجوه التي تبدّلت، أدعو كل اللواتي قبّلتهنّ إلى مائدتي، أعدْنَ لي كل قبلاتي»، إذ ليس الشعر في النهاية سوى هذه الأريكة الصفراء.