معرضان بالتوازي مستمرّان في فضاء «غاليري صفير زملر»، حتى نيسان (أبريل). الأول للتشكيلية الفلسطينية سامية حلبي (1936)، والثاني للّبناني فريد حداد (1945). في معرضها «فكّ رموز الألوان: 1982 - 2022»، تقدّم حلبي أعمالاً قديمة وحديثة من رصيدها الفنّي المنجز حتى اليوم. الفنانة المقدسيّة هجّرتها النكبة إلى لبنان، ثمّ إلى الولايات المتحدة حيث درست الفن ودرّسته في جامعات عدّة. تعالج في مجموعة كبيرة المشاهد الطبيعيّة وتقلّبات مواسمها. يتميّز أسلوبها بضربات الفرشاة المبلّلة التي تكوّن المشهد الطبيعيّ، وسكونه يكاد يكون مفقوداً ومتلاشياً. تثبّت حضورها التشكيلي من دون استسهال. كما اشتهرت أعمال لها تجسّد مجازر كفر قاسم ودير ياسين، مؤكدة على تجذّر أصولها الفلسطينيّة في وعيها، فهي فلسطينية الانتماء، لبنانية التكوين، أميركية الإقامة. لم تعرف يوماً الهدوء والسكينة، تنتقل من أسلوب تشكيليّ إلى آخر، ومن منحى تجريديّ إلى آخر مغاير عصباً ونبضاً، ما أغنى مسيرتها ورسّخ حضورها كفنانة عربية صاحبة إبداع متماسك ومتنوّع في آن، وتربّعت على عرش الفنون العربية ولم يحرمها انتماؤها من فرض شخصيتها في الجامعات الأميركية التي درست فيها. غزيرة وفوّارة تجارب سامية حلبي في التجريد الذي ملأ النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. لم تكرّر نفسها يوماً ولا تترك لوحاتها مللاً في العين. متمكنة تقنياً، تجيد ضبط ملوانتها وخطوطها وإيقاعاتها ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻴﺔ. يدها جريئة، شفافة، تقارب اللون بشاعريّة وإتقان في آن. أناقة لوحتها تدغدغ البصر. مخزونها المشهديّ لا ينضب. ذات فرادة مثيرة للجدل والإعجاب.
سامية حلبي ــــ من سلسلة «اللوحات الحركية» 1986

أمّا فريد حداد فقد جمع في «لزمن لبنان»، أعماله التي أنجزها طوال العقود الخمسة الماضية بين لبنان والولايات المتحدة. عاش في بلده مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، زمن كانت بيروت تشهد ازدهار الحداثة اللبنانية والعربية، ثمّ سافر لمتابعة دراسته في «جامعة ويسكونسن ميلووكي» سنة اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. يشغل حالياً كرسي أستاذ فخري في «جامعة نيو إنغلاند»، حيث نال مرتين «جائزة مجلس الدولة للفنون» في عامي 1983 و 1984.
أعماله المميّزة أصباغ متداخلة على قماش، علماً بأنّه انجذب في المرحلة الأخيرة إلى التجريد التجريبيّ وتميّزت أعماله بضربات الفرشاة السائلة التي تكوّن نسيجاً لونيّاً مثيراً. لوحاته شديدة التنوّع بين البنائيّة والتجريد، ومختلفة الوسائط والتقنيات الموظّفة في اللوحة والكولاج والتراكيب الهندسية، والبُعد الشعريّ حاضر دوماً. ملوانته تميل إلى الكثافة (على نحو يفوق ما نراه لدى «جارته» في المعرض الثنائي سامية حلبي). فالتكوين الهندسيّ عنده أكثر إلحاحاً ونسجاً.
مع ذلك، ولو بحثنا عن نقاط مشتركة بين الفنانين اللذين يعرضان أعمالهما في مساحة عرض واحدة، ورغم اختلاف أسلوبيهما، نشعر بنوع من «الحوار اللونيّ» والتشكيلي بينهما لنواحي البحث التجريديّ والغنائيّة الشكلية والمفردات الجماليّة لبناء سرديّة بصريّة. وفي حين يبني معظم الفنانين الأميركيين من معاصري حلبي من بينهم جوان ميتشل وفرانك ستيلا وكليفورد ستيل وإلسورث كيلي لوحاتهم حول أشكال مركزية، تتميّز حلبي عنهم بإضافة الأشكال الهندسية المنحنية، كأنّها تحمل معها منابعها الشرقيّة من خطوطيّة أو الـ«أرابيسك»، فتمتلك بالتالي أبجديّة أسلوبها الخاص الذي يمكن وصفه بأسلوب «الكتابة البلاستيكية». كذلك، تتطوّر أعمال فريد حداد بالطريقة عينها لناحية الربط بين التركيب والنموذج، ومن ثمّ اعتماده على الطلاء كمادة أساسيّة، في تطوير لوحة الكولّاج، بل «شظايا» هذا الطلاء. وفي المقارنة أيضاً، يعتمد الفنانان منهجيّة التطوير التي قدّماها على مدى سنين واختبراها بقوة وثبات، بحيث أنّ عملاً لفريد حداد قد يستلزم أشهراً، ومثله حلبي، إذ يخضع اللون لديها لمعادلة رياضيّة تقريباً. في منتصف الثمانينيات مضت إلى أبعد نحو تطوير برنامج كمبيوتريّ على Amiga لتكوين أشكال متحرّكة على الشاشة. بذلك يمكن أن نفهم خلفيّة عنوان المعرض: «فكّ رموز الألوان» ومردّه الإطار المفاهيمي للغة الكمبيوتر في تفكيك عناصر التعبير الجماليّ، ولهذا أيضاً ندرك سبب تآلف المعرضين واجتماعهما في مساحة عرض واحدة.
نشعر بنوع من «الحوار اللونيّ» والتشكيلي بينهما لنواحي البحث التجريدي والغنائيّة الشكلية والمفردات الجماليّة


في الخمسينيّات والستّينيات من القرن الماضي، زمن هيمنة الفن التجريدي في الغرب، انتقد هذا الفن بسبب إدارة ظهره لمناقشة قضايا عصره. لذا ولدت، في فرنسا، ثم في إسبانيا، تيّارات «التشكيل الجديد» و«التشكيل السرديّ» للحدث المعاصر، وكان ملتصقاً بالسياسة. هنا، السرد الذي يطوّره كلٌّ من حلبي وحداد يتكشف أيضاً عن استشعار سياسيّ خاصّ بقضايا العالم العربيّ، والبرهان أنّنا نقع على عناوين مثل «التحرير»، «المعارضة»، «الالتزام»، «الهزيمة» إلخ. ما يؤكد على التفاعل الفني مع السياسيّ، فالفنّ لا يمكن أن ينأى بسهولة عن السياسي.
يكتسب هذا المعرض المزدوج أهمّيته من كونه يلقي ضوءاً كافياً على تجربتين مثيرتين، طليعيتين، غير معروفتين بما يكفي، حتّى إنّ فريد حداد يُعتبر اكتشافاً حقيقيّاً لنا محلّياً، فمعرضه الفردي الأوّل في بيروت يعود إلى أكثر من أربعين عاماً، وإطلالته الجديدة هذه أكثر من ضروريّة للتعرّف إلى مكانته الإبداعيّة، مع الإشارة إلى أنّه أقام أكثر من عشرين معرضاً منفرداً وخمسين معرضاً جماعياً حول العالم، وهو يعمل اليوم في محترفه الخاص في كونكورد في نيوهامشاير، حيث إقامته الأميركية المستمرّة منذ عقود طويلة.

* «فكّ رموز الألوان: 1982 - 2022» و«لزمن لبنان»: حتى 15 نيسان (أبريل) ــــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/566550