شكيب خوري* في رواق الأرق، كان شعر عصام محفوظ يسكن خشبة المسرح. اختبر الصراع الوجودي؛ صراع رافقه إلى خلواته محمّلاً باستراتيجية دراما قلق الإنسان... مصيره. وولدت مسرحية «الزنزلخت» الأولى التي تنتمي بفكرها الوجودي وأسلوبها الدرامي إلى حركة «مسرح العبث».
يومَ غدرته حتمية القَدَر، وانحرمنا من شعره، مسرحه ومقالاته حول المسرح والأدب في جريدة «النهار» التي زوَّد بها القارئ بالحديث عن الأنشطة الفكرية والإبداعات في العالم، تذكَّرتُ مساهمةَ عصام المبدع، المغامر والطموح في‮ ‬زمن الشِّح المادي‮ ‬والرعاية النادرة الخجولة لنشأة مسرح لبناني.‮ ‬
نضجت رؤيته المسرحية بالممارسة والاطلاع‮. سما بخياله فوق المألوف‮. تفاعل ‬مع المتغيرات؛ ‬مآسي الحرب الكونية‮؛ تخزَّن الصّدمات، الآلام، والخيبات؛ ناقش المعتقدات فاستيقظَ مذعوراً‮: تشكيكٌ حرق أيقوناته ولوحاته الأثرية وغيّر ثوابت الفكر والفنون‮ ‬والرواية والهندسة؛ رمَّد أعمدة القصيدة وقواعد أرسطو المسرحية‮. ‬وعندما استقر المشهد، وجد عصام نفسه‮ ‬يطرح أسئلة،‮ ‬يحاور وجوده،‮ ‬إيمانه وما وراءَهما‮. ‬لم‮ ‬يأته إلّا ‬الصَّمت‬. ‬
فخرج إلى تحقيق معنى وجوده،‮ ‬ساعياً بكل جهد وإمكانية فكرية إلى استنباط نظامه المذهل والمبهم بمنطق اللامعقول فانبلج ‮نوره بكم‮ ‬من الأسئلة المشكِّكة بمعقولية القيم والأعراف السائدة. ‬في‮ ‬أجواء ذلك الجدل المحموم، تكوّنت أفكاره المسرحية؛‮ ‬أصرّ على أن يحاور الظلم الحقيقي‮ وكان صريحاً،‮ ‬غاضباً، ‬‬و‮صادماً‮. ‬ومن تلك الصرخة ‬ولدت شخصية «سعدون» في‮ «‬الزنزلخت‮».
وضع عصام محفوظ رؤية مسرحية واضحة، وحدّد خصائصها ببيان مسرحي‮ ‬رقم‮ «١». ‬كان‮ ‬يتمثَّل في مبتكري‮ ‬المذاهب الفكرية والفنية أمثال فيليپو توماسو مارينَتّي‮ ‬مروِّج‮ "‬الحركة المستقبليّة‮" ‬وأندره بريتون،‮ أب السوريالية‮.‬‬
لم تكن علاقة محفوظ مع "مسرح العبث"‮ ‬بقصد التنكِّر للقيم التي‮ ‬ورثها إنّما بهدف تفكيك الأنماط التقليدية‮. ‬انطلق‮ ‬مع خيارٍ عَبَّرَ به عن ذاته‮: ‬إنسان تأثَّر ومتمرِّد. عانى أوجاع الإنسانية فتحوّل‮. ‬هذا منطق الإبداع المنفتح على المستجد والمتحرِّك‮، الرافض لمبادئ درامية كانت تبدو ما قبل الخمسينات من القرن العشرين مستقرّة. ‬انتماء محفوظ إلى هذه المستجدات جعل من شخصيات‮ «‬الزنزلخت‮» ‬كورساً ‬يتقاسم الأدوار والذكريات؛ تُظهرُ الحجج والبراهين والوقائع وتَختفي‮ ‬كومضات الفكر المضطرب، الصاخب،‮ ‬الحائر‮ ‬واللامنسَّق‮. ‬عندما عرضت‮ «‬الزنزلخت» ‬سنة ‮٨٦٩١ ‬ارتاح المسرحيون إلى هذه التجربة الحديثة في‮ ‬نسيج ونهضة المسرح اللبناني‮.‬
المدهش، يا عصام، أنّ‮ ‬لقاءاتنا الأكثر حضوراً في‮ ‬ذاكرتي‮ ‬الآن كانت تحدث خلال فصل الربيع‮! ‬تذكر لقاءنا في شقّتي ذات مساء في پاريس، شارع لومون، الحي‮ ‬اللاتيني؟ كنت تركت النوافذ مشرّعة، وسهونا عن اللياقات وقوانين السكن في‮ ‬الغربة، لأنَّ الحديث معك‮ ‬صحوة الحيوية‮. ‬وفيما نحن نتناول عشاءً‮ ‬متواضعاً أعدّته ساميه، والنقاش والفرح وتقويم العروض المسرحية التي‮ ‬شاهدناها يصخب وإذ يرنُّ جرس الباب‮. ‬فتحته. كان بواب البناية منتصبـاً‮ ‬أمامي‮ وأساريره توحي بالغضب‬. وقال محذّراً وبعصبية: «لا نستغرب إذا ما حضرت الشرطة وعكّرت مزاجكم ببعض الملاحظات الفظَّة‮».
اشتقت لك، يا عصام. أنا جايي في فصل الربيع. لا تنسى انّك في جلسة حَميمة وعدتني بأنك لن تتخلى عن صحبتي. ولقاءاتنا لم تنقطع إلا لأسباب قاهرة. القهرُ، يا صديقي، قدرُ الإنسان.
أنا جايي والربيع عَ الأبواب، احفظ لي مساحه حدَّك.
* مسرحي لبناني