تُخفي حياة بليغ حمدي (1930 ــــ 1993) من الأسرار والكواليس أكثر بكثير ممّا نعرفه ونظن أننا نعرفه أو نختزله في 1500 لحن غناها نجوم المطربين العرب. يمكننا ببساطة تصوّر حياته كقطعة البازل الكبيرة غير المكتملة؛ تكشف لنا كل فترة قطعة جديدة تكمل جزءاً من البناء والصورة. وهنا تماماً كان سرّ الصحافي أيمن الحكيم، الذي يتتبع سيرة «مداح القمر» بأمانة وعد قطعه على نفسه للمطرب محمد رشدي؛ إذ اجتمعا أمام مكتب بليغ في الزمالك بعد وفاته وقد ألقى صاحبها بمقتنياته أمام الباب. قال رشدي للحكيم: «تعال نلم بليغ من على الأرض» في إشارة إلى مقتنياته من عوده الشهير ودفتر الموسيقى التي دوّن فيه ألحانه. مقتنيات أنجز عنها الحكيم كتابه «موال الشجن.. سيرة أوراق وألحان بليغ» (2012)، الذي خرج في طبعة مزيدة عام 2021 بعنوان «سلطان الألحان». وقبل أسابيع، صدر كتاب «بليغ حمدي... أسرار الأيام الأخيرة» (دار أطياف) الذي يعتبره الحكيم «مغامرةً لاستكشاف السنوات المجهولة في حياة بليغ حمدي». رصد الكتاب محطات عدة بين الصراع السياسي وعلاقته بالأصدقاء و«سنوات المحنة الكبرى» التي عاشها في منفاه في باريس بسبب قضية انتحار المغربية سميرة مليان في شقته.
مع وردة الجزائرية

ليس غريباً أن تكون إحدى اللحظات الصعبة التي مرّ بها بليغ تتعلق بأم كلثوم. لكنّ السر أن ذلك حدث بعد وفاتها في شباط (فبراير) 1975. تذكّر يومها أنّ لديه كنزاً يخصهما (بليغ وأم كلثوم): بروفات لـ 11 أغنية لحّنها لها. وقتها، تحمّس مجدي العمروسي منتج شركة «صوت الفن» لشراء تلك التسجيلات وطرحها في الأسواق، وعرض على بليغ وقتها مليون جنيه مقابل شرائط الكاسيت التي سُجّلت عليها تلك الحفلات. وافق بليغ على أمل تحقيق حلمه في إنشاء استوديو مجهز بتقنيات حديثة ينافس استوديوات أثينا وبيروت التي كان يسجل فيها. هنا كانت المفاجأة. ذهب بليغ إلى مكتبه لإحضار أشرطة الكاسيت، وعندما بدأ يجرب الشريط الأول، إذا بصوت المطرب الشعبي أحمد عدوية بدلاً من أم كلثوم. ماذا حدث؟ كان سائقه عبد الفتاح وسائق عبد الحليم من قبله هو السبب: لقد أراد توفير ثمن الأشرطة الجديدة في التسجيل، فاستعمل تلك التي تحمل كنز أم كلثوم وثروة بليغ!
في ليلة 17 كانون الأول (ديسمبر) 1984، بدأت فصول دراما جديدة في حياة بليغ حمدي، لا نبالغ في تسميتها المحنة الكبرى في حياته خلال سهرة عامرة بأصدقاء بليغ، عرباً ومصريين، وبينهم بالتحديد عبد المجيد محمد توردي، وهو رجل أعمال سعودي من أصل يمني، جمع ثروة طائلة من تجارة السلاح، وكان يحب بليغ ويفرض نفسه على سهراته. وهو معروف بساديته في العلاقات الجنسية. وفي السهرة نفسها، كانت سميرة مليان المغربية التي شغلت قضيتها الرأي العام وقتها وغيرت مسار حياة «ملك الموسيقى». في تلك اللحظة وشقة بليغ ممتلئة بالضيوف، استأذن هو للنوم بسبب موعد تسجيل صباحي، فماذا حدث بالضبط؟ يكشف الحكيم في كتابه أن قضية انتحار المغربية في بيت بليغ حمدي التي أكلت عليه الصحافة وشربت لسنوات لم تكن انتحاراً أصلاً. من أوراق التحقيقات التي تنشر للمرة الأولى، تبين أن السعودي عبد المجيد محمد تعرّف إلى سميرة الفتاة المغربية المهووسة بالغناء، لكنه تركها وتزوج من شقيقتها الأجمل، وحتى يتّقي انتقامها، وعدها بأن ينتج لها ألبوماً كاملاً من ألحان بليغ حمدي.
شهدت السهرة الكثير من المشادات بينهما، خصوصاً أنه أعجب بفتاة جزائرية وقرر أنها ستعيش في شقة الهرم التي كان قد منحها لسميرة قبل ذلك. حاولت سميرة أن تكتم انفعالها بالإفراط في الشرب، وانصرف كل الضيوف ولم يبق في البيت إلا عبد المجيد وسميرة، فسحبها عبد المجيد إلى حجرة تطل على المنور ليعقد معها صفقة، لكن سميرة لم تستجب لوعوده وتهديداته، فبدأ يضربها ثم تصاعدت حدة الضرب الذي أصاب سميرة بصدمة عصبية لفظت بسببها أنفاسها الأخيرة. ودخلت صباح طباخة بليغ لتوقظه من نومه وتخبره بالصدمة: الست المغربية ماتت. هنا بدأت التراجيديا في حياة بليغ.
اتصل بليغ بصديق له لواء سابق في الشرطة، ليتولى الاتصال بالشرطة والإبلاغ عن الواقعة. وبحضور هذا اللواء السابق لموقع الحادث، توسله السعودي عبد المجيد حتى يخرج من القضية، خصوصاً أنها ستفتح ملفاً قديماً له يتعلّق باعتدائه على راقصة في الإسكندرية بحرق أعقاب السجائر في جسدها وإصابتها بكسور. يومها، حُكم عليه بستة أشهر من السجن مع إيقاف التنفيذ.
كان طلبه الأخير في المستشفى الفرنسي سماع صوت المطربة الكبيرة وردة


طلب اللواء السابق بطانية لف فيها جثمان سميرة مليان ووضع الجثمان في المصعد الموصل إلى جراج العمارة. وأمام شرفة بليغ الخلفية ألقي بالجثمان، ليوحى بأن صاحبته ألقت بنفسها منتحرة. وبعد ساعة بالضبط من الواقعة، كان السعودي يركب أول طائرة أقلعت من مطار القاهرة إلى قبرص بعدما دفع 100 ألف دولار مكافأة لصديق بليغ الذي أنقذ السعودي وورّط ملك الموسيقى.
يشير الكتاب إلى أنّه أثناء وجود بليغ في منفاه في باريس (قبل البراءة)، توسّط الكثير من الحكّام العرب على رأسهم القذافي وصدام حسين، لإصدار الرئيس الأسبق مبارك عفواً رئاسياً عن بليغ، ووافق مبارك بإصدار عفو صحي عنه فور تسليم نفسه، لكن بليغ رفض لأن العفو بتلك الطريقة لن يغسل سمعته.
استمر التحقيق في تلك القضية أربع سنوات، قضاها بليغ في منفاه الباريسي، كان دليل البراءة فيها هو ذلك التأخير لساعات، بين حدوث الواقعة وإبلاغ الشرطة، إذ بدا لجهات التحقيق في ما بعد أنه متعمّد واستُخدم ضد بليغ رغم أن السبب فيه ذلك هو الصديق المضلل الذي قام بتهريب الجاني الحقيقي. وقضت المحكمة ببراءة بليغ حمدي في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990.

علاقته بيوسف إدريس
وبين ملك الموسيقى والأديب الكبير يوسف إدريس، يحكي الكتاب عن واقعة غريبة. ربما لم تحدث لإدريس مثلها في حياته قط. دعاه بليغ حمدي في ليلة من الليالي للسهر مع عدد من الأصدقاء في إحدى الشقق التي استأجرها في منطقة الأهرامات. وعندما وصلوا، اكتشفوا انقطاع الكهرباء في المنطقة، فاستأذنهم بليغ في الذهاب لشراء الشموع. لكنه لم يعد ليلتها وكانت الليلة التي بات فيها «أمير القصة القصيرة» في الصحراء!
من الأسرار التي يكشفها الكتاب أيضاً كيف تسبّبت وردة الجزائرية في قطيعة بين بليغ حمدي وعلي الحجار دامت لسنوات. قال لها الحجار بأنه لم يبك على وفاة عبد الحليم. وقتها قالت وردة لبليغ الذي كان يتبنى علي الحجار كموهبة شابة ويستثمر فيها: «إنه شاب غير وفيّ». ساعتها طلب بليغ من الحجار أن يعتذر لزوجته وردة ويشرح لها مقصده الحقيقي. لكن الحجار اعتبر أنّ ذلك ينتقص من كرامته وبدأت قطيعة استمرت لسنوات بينه وبين أستاذه.
من ضمن الحكايات الكاشفة التي يذكرها الكتاب، موقف جمع بليغ حمدي بالمطرب الشاب وقتها هاني شاكر الذي طلب مقابلته بعد عودته من منفاه. حينها، طلب من الشاعر والكاتب الساخر محمد السيد، أحد أقرب أصدقاء بليغ، التوسط له كي يحصل على لحن من ملك الموسيقى. وافق بليغ على تقديم لحن للمطرب الشاب بـ5 آلاف جنيه فقط دعماً لمشواره. وبالفعل لحّن بليغ لهاني شاكر أغنيتين. وبعدها سافر إلى باريس للعلاج ومات هناك قبل تسجيلهما. طلب هاني شاكر من الشاعر محمد السيد كلمات الأغاني فقط، قائلاً: سأقوم بتلحينها من جديد حتى لا أدخل في مشكلات مع ورثة بليغ ويسألوني عن الأرقام والحقوق. وبهذه الطريقة ضاع اثنان من ألحان بليغ الأخيرة.
ويعتبر محسن خطاب، واحداً من خزنة الأسرار، فهو الذي رافق بليغ طوال سنوات ابتعاده عن مصر، بسبب قضية المغربية سميرة مليان، وكان يضع ألحانه في مطعمه، كما رافقه في رحلة علاجه الأخيرة التي انتهت بوفاته. بليغ مات بخطأ عبثي، فقد كان تاريخ ميلاده المدون في جواز سفره هو 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1939، وهو تاريخ يقلّ عن عمره الحقيقي بتسع سنوات، وكان أغلب الفنانين وقتها يفعلون ذلك، وبناء على التاريخ المدون في جواز سفره، حدد الأطباء جرعة العلاج، التي جاءت أقوى من قدرة جسده على التحمّل، فأدت إلى مضاعفات خطيرة، بعدما تكشفت إصابته بسرطان الكبد.
يكشف خطاب أن طلب بليغ الأخير في المستشفى الفرنسي «غوستاف روسيه» هو سماع صوت المطربة الكبيرة وردة. وكان قد كتب في وقت سابق كلمات أغنية «بودعك» ونسبها إلى الشاعر الخليجي منصور شادي، ثم أرسلها إلى وردة. مات بليغ في أيلول (سبتمبر) 1993 في باريس، وكانت أغنية «بودعك» آخر ألحانه التي خرجت للنور، إذ قرّرت وردة أن تغنيها بعد 40 يوماً على وفاته على «مسرح البالون» في الجيزة، كأنها كانت تعلم أنها بمثابة الوداع الحقيقي لحبها الوحيد بليغ حمدي.