إذا كانت «مؤسسة الفكر العربي» بإصدارها مجلّد «وطن اسمه فيروز» ومشاركةِ أسماء كبيرة من العالم العربي في التمجيد، ترغب في ابتكار تكريم للسيدة فيروز، فإن هدفها تحقّق بهذا الجَمعِ الفكري والثقافي والنقدي البشري، ومستوى المجلّد ورقاً وطباعةً، وبكمية الآراء المسؤولة التي سُطّرَت.غير أنّ المطلوب من مؤسسة فكرية بهذا الحجم ليس حجم المجلّد، ولا حجم أو عدد المشاركين فيه، بل حجم وقيمة وعمق المواضيع «الدقيقة» التي كان ينبغي أن تكون حاضرة، كأن يختار كل كاتب موضوعاً في صوت فيروز أو نتاج عاصي ومنصور، وهذا غير موجود في المجلّد إلّا عابراً!
من المواضيع المرتجاة مثلاً:
1-طبيعة صوتها في الصعود المتين من الخمسينيات إلى مطلع القرن الجديد، وكيفية تفتّحه وتدرّجه وتقدّمه ليصبح في أعلى عِلّيِّين.
2- نوع الأغاني الفولكلورية، والأغاني الشعبية التي أنشدتها طوال حياتها، والغنى الموسيقي والأدائي الراقي لها.
3- نوع الأغاني الرومانسية، وكذلك الأغاني الدرامية وكيفية قولبة صوتها ليطابق المضمون ويطلقه في الأسماع.
4- الأغاني الموجهة إلى البلاد العربية والمعروفة بطابع قصائد الفصحى، وقدرة الصوت على تجويد القصائد وخلْقها من جديد.
5- دراسة موسيقى الحوارات الغنائية في المسرحيات الرحبانيّة، وتحويل المواقف السياسية والاجتماعية والوطنية، بصوت فيروز، إلى قضية فنية موسيقى وأداء، فضلاً عن جعل الحوار المغنى بين الممثلين/ المغنين باباً لاكتشاف أسرار النقلات بين جملة وجملة في الحوارات، وفي الأصوات المشاركة (غير فيروز).
6-الإضاءة على طريقة (أو طُرق) عمل الأخوين رحباني في المسرح الغنائي، من ابتكار «الحدّوتة» إلى رسم الشخصيات، إلى تقويلها ما أراد عاصي ومنصور إيصاله إلى الجمهور، إلى اللّمّة الأخيرة والنهائية للعمل المسرحي.
7-قضية العمر - الطفولة التي شغلت الأخوين رحباني وصوت فيروز من البدايات إلى النهايات بعشرات وربما مئات الأغاني المنفردة المدهشة، والكثير من التضمينات الخاصة في الحوارات الوجدانية للشخصيات المسرحية.
8- القصص والحكايات التي كانت تُبنى عليها المسرحيّات، ومدى الخيال الذي كان يحركها، وبعضها كأنه من مسرحيات الأطفال («هالة والملك»، «ناطورة المفاتيح»، «المحطة» وغيرها) بالإضافة إلى الأعمال الوطنية أو التاريخية وكيفية توليف بل إضافة تفاصيل سحرية عليها (شخصية عطر الليل في «أيام فخر الدين»، قرنفل في «صحّ النوم» وغيرهما) وهي حكايات يتداخل فيها الواقع والحلم والوهم!
9- الخروج الكامل من فكرة أن الأخوين رحباني صنَعا وطناً ساكناً في أقصى التمني ولا يشبه وطنهما، لأن أغلب مسرحيات عاصي ومنصور كانت تتغلغلُ فيها صورتان أساسيتان: صورة الوطن المُدافع عن نفسه بإرادة الأحرار المؤمنين به، وصورة السياسة التي تنخر فيه. وطن الأخوين رحباني هو لوحة عن قديم البلد وعاداته، والنموذج الإبداعي المُنتَظَر في العصر، والسياسة فيه كانت دائماً مُستهدَفة بالنقد والسخرية.
10- إفراد مساحة خاصة لأعمال فيروز مع زياد الرحباني، والانخراط في عملية تقدير قيمتها الجمالية «الزيادية» وخصوصيتها ومفاتنها الذاتية فلا تختلط مع غيرها!
ونستطيع اختيار مواضيع أخرى كثيرة كنا نتمنّى لو أن مجلّد «وطن اسمه فيروز» نسّق مع الكتّاب الكبار بشأنها، فكتب كل كاتب عن فكرة معينة مختلفة عن الأفكار الأخرى لدى غيره، لأمكن تفادي الكثير لا بل الأكثر من كثير من توارُد (تناسخ، تقمّص، نقل!) الأفكار عند الغالبية الكاتبة مما هو معروف ومألوف عن نتاج الرحبانيّين، فبات تقليب صفحات المجلّد، لا بدّ من أن يُريك التكرار المُصاغ بعبارات تُداري أن تُكشَف أصولها المنقولة عنها أكثر ممّا هناك جديدٌ فعلي ينير الباحث عن «السرّ الرحباني الخلّاق».
كان ينبغي لـ «مؤسسة الفكر العربي» التعمّق في موضوع التأليف الرحباني من الداخل


حتى الياس الرحباني «توارى» صنيعُهُ الجمالي في صوت فيروز وهو رائع. وكذلك فطرة وجواهر النوتات والأغاني الشعبية البديعة لفيلمون وهبي. والاثنان لم يظهرا في المجلّد بالقدر الذي يعبّر عن مكانتهما في صوت فيروز وفي المسرح الرحباني.
خطأ فادح تركُ المعجبين بصوت فيروز ووجدان عاصي ومنصور الفني، يتكلّمون ما يريدون لأن توارُد الخواطر عندها سيسيطر، والأفضل لو وجّهنا كلّاً منهم إلى «مكان» محدّد للحصول على البُعد النقدي المبهر!
ودائماً يبقى اللّغز المُحرّم: هل كان عاصي ومنصور الرحباني إنساناً واحداً في تفكيره وثقافته وخياله ومزاجه الفني؟ وهل كانا واحداً لا اثنين في الأسلوب الفني شِعراً وتلحيناً وموسيقى وتصوّراً إبداعياً؟ وهل كانا متوافقَين متوائمَين في اقتناعاتهما الفكرية والمهنية؟ والجواب السريع (والغريب) هو كَلّا. لقد قامت القيامة بينهما أكثر من مرّة خلال تحضير المسرحيّات بين من يريد منهما كذا والآخر يريد شيئاً آخر. وكم بدأ واحد منهما كتابة مسرحية وأكملها الآخر، وكم غرقا في مسألة معينة ولم يخرجا إلّا بعد تبادل صراخ حاد و«شتائم» نبيلة؟ لكن كانا في النهاية يعودان إلى الطاولة ويكملان ما بَدآه كأنّ شيئاً من الصراخ والاختلاف لم يكن.
وهذا كان ينبغي أن يَبحث عنه مجلّد «الفكر العربي» بمعنى: كيف كانت المَأْلَفة الرحبانيّة من الداخل.
وكل خارج لا يرى الداخل يظلّ ناقصاً مهما جُنّدتْ له أقلامٌ ورُواة!