العالم اليوم مُنقسم بين الليبراليين اليساريين الذين يعبّرون عن سخطهم مِن المواقف الغربية التي لا تُقدم ما يكفي مِن المُساعدات لدول الجنوب الفقيرة والنامية، وتنتهج سياسات الأبواب المُغلقة أمام اللاجئين، خصوصاً القادمين مِن الشرق الأوسط، بينما يقول اليمينيون الشعبويّون بأنّه ينبغي لتلك البلدان أن تحل مشكلاتها بنفسها، وأن على الغرب أن يحمي أسلوب حياته.في هذا السياق، يقول سلافوي جيجيك في كتاب «ضد الابتزاز المزدوج، اللاجئون والإرهاب ومشاكل أخرى» (ترجمة مينا ناجي ـــ دار المرايا): «هناك في الحقيقة صدام للحضارات بين الغرب المسيحي والشرق الإسلاموي المُتطرّف. لذا ينبغي إعادة بناء مجتمع عالمي؛ بحيث لا يُجبر اللاجئون على التنقل». يشير إلى ضرورة وقف سياسة الباب المفتوح لأوروبا مع فتح مراكز استقبال قريبة من نقاط تدفق اللاجئين في (تركيا، لبنان، الساحل السوري، ساحل شمال أفريقيا)، حيث ينبغي تسجيل ومسح الآلاف؛ ثم النقل المنظم للمقبولين إلى أوروبا، مُشدداً أنّ «الجيش هو العنصر الوحيد القادر على مباشرة هذه المهمة بطريقة منظمة».
يبحث جيجيك عن اللاجئ المُفيد والآخر غير المُفيد، إذ يؤكد أن اللاجئين كُلهم مُسلمون، أي قادمون من ثقافة غير متوافقة مع المفاهيم الأوروبية الغربية عن حقوق الإنسان. وهم لا يقبلون الحرية الغربية، خصوصاً نقد الأديان، أو احترام حقوق المرأة. لذا ينبغي وقف حُرية الحركة للاجئين عبر الأراضي الأوروبية، خصوصاً في المناطق ذات الكثافة السكانية لأنهم يشكّلون خطراً على نمط المعيشة الغربي. لماذا فرضية أن جميع اللاجئين مسلمون؟ هل وحدهم المسلمون لا يتوافقون مع المجتمع الأوروبي؟ هل مسيحيّو الشرق وأصحاب الديانات الآسيوية (الهندوسية مثلاً) يتماهون حقاً مع الغرب؟ هل الأوكرانيون اليوم لا يمثلون مُشكلة لجوء للعواصم الأوروبية؟
حاول جيجيك نقد اليسار واليمين دفعة واحدة، فسقط في الطرح الشعبويّ – العنصري الذي يتعامل مع المُشكلة الإنسانية الناتجة عن الحروب والكوارث الطبيعية بمنطق الإفادة القصوى اقتصادياً واجتماعياً لمجتمعات تُعاني نقصاً في الأيدي العاملة ومعدلات شيخوخة مرتفعة ومعدل ولادة متدنٍ. وتجاهل أنّ الناس في أفريقيا والشرق الأوسط لا يريدون التدفق إلى مراكز الاستقبال لاختبار مدى صلاحيتهم للعبور إلى أوروبا، بل أرادوا في الأساس أن لا تدمّر الأخيرة ليبيا، ما أوقع البلاد في حالة فوضى. الغزو الأميركي للعراق كان أحد أسباب ظهور الإرهاب. أما الحرب الأهلية المستمرة في جمهورية أفريقيا الوسطى بين الجنوب المسيحي والشمال المسلم، فليست مجرد انفجار للكراهية العرقية، بل لأن فرنسا تسعى إلى الاستحواذ على النفط المُكتشف في الشمال.
وإذا كان جيجيك يريد حقاً فهم طبيعة البيئة الدولية الفوضوية التي يُقدمها في «فلسفة الفوضى» (راجع مقال الزميل محمد ناصر الدين)، يجب أولاً أن يُدرك أنّ الفوضى تظهر واضحة في دول فاشلة، معظمها تكون بأنظمة سياسية مُعطلة إلى حد ما مثل سوريا والعراق وليبيا والصومال وجمهورية الكونغو الديموقراطية... وهذا التفكّك لسلطة الدولة ليس ظاهرة محلية بل نتيجة للسياسة الدولية والنظام الاقتصادي العالمي.
أما بخصوص أشكال الرق الجديدة، فهي سمة باتت تميّز الآن تلك البلدان الأوروبية الغنية، ولم تعد حكراً على الدول الآسيوية وشبه الجزيرة العربية حيث العُمّال محرومون من الحقوق والحريات المدنية الأساسية. في عام 2013 احترق مصنع في مدينة براتو الإيطالية، بالقرب من فلورنسا، وراح ضحيته سبعة عمّال، لتكشف التحقيقات أن المنطقة الواقعة بين فلورنسا وبراتو يعيش ويعمل فيها آلاف من العُمال في ظروف تشبه العبودية.
أخيراً، يجب أن نُعيد قراءة الأطروحات التي تتحدث عن توسيع العولمة مثل أطروحات جيجيك، لأن تأزم الوضع الإنساني حالياً ليس لضيق العولمة ولكن بسبب تغوّلها على السيادة الوطنية ما زاد من ظاهرة البلدان الفاشلة، والهجرات الكبيرة التي يتم تأويلها كتجديد للهمجية أو ما يسمّيه البعض مثل جيجيك «صراع الحضارات».
هل مسيحيّو الشرق وأصحاب الديانات الآسيوية يتماهون حقاً مع الغرب؟


وقبل الحديث عن تفعيل دور الجيوش في البيئة الدولية الفوضوية، يجب أولاً وضع حدّ للتدخل العسكري والاقتصادي الدولي، وعدم تجديد سياسات الاستعمار القديم، الذي اختلفت آلياته لكنه يواصل تقويض وتهديد البلدان العربية والأفريقية والأميركية اللاتينية، مثل العراق وسوريا وليبيا، ما يؤدي إلى مأزق إنساني لا ينتج عنه إلا تشدّد في الآليات الدولاتيّة الاستبدادية باسم المنطق والحقائق حول المتطرفين الذين يتم حصرهم غالباً بالدين الإسلامي.
الأهم والأكثر صعوبة الذي يمكن الاتفاق فيه مع قراءة جيجيك هو الحاجة الماسة إلى تغيير اقتصادي جذري يلغي الظروف التي تخلق فوضى عالمية. وبدون تحول في طريقة عمل الرأسمالية العالمية، سينضم قريباً لاجئون اقتصاديون مِن بلدان مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، ليسوا مُسلمين ومتوافقين مع الثقافة الأوروبية، لكنهم سيخلقون فوضى عالمية مُماثلة تتعلق بسرقة الوظائف وخنق نمو اقتصاديات الدول في غرب وشمال أوروبا، ما يدعم نمو الحركات المتطرفة والعنصرية والكارهة للأجانب وسيكون صدام حضارة أوروبية واحدة هذه المرة.