عبر سرد بانورامي لسيرة 21 امرأة في التاريخ الإسلامي، انطلاقاً من خديجة بنت خويلد (560م-619م) وصولاً إلى عالمة الرياضيات الإيرانية الراحلة مريم ميرزاخاني (1977-2017م)، ومروراً بنساء مسلِمات شكّلن نماذج دينية وشخصيات سياسية وفقهية ومدنية على جغرافيا مترامية الأطراف من الجزيرة العربية والهند إلى إسبانيا وشمال أفريقيا، ومن مصر واليمن إلى بريطانيا والولايات المتحدة، يأخذنا الباحث الإيراني في «جامعة هارتفورد» الأميركية حسين كمالي في كتابه «تاريخ الإسلام في إحدى وعشرين امرأة» (2022 ــــ دار صفحة 7 السعودية ــــ ترجمة وفاء يوسف) في رحلة شيّقة هي بمثابة دعوة لتأمّل تاريخ الإسلام بصورة عامة، وحضور المرأة الحاسم في هذا التاريخ. ولذا فهي تستحق مكانة بارزة في السرد التاريخي. مع كل الأمثلة التي يستلّها من الماضي، يغدو تفعيل أدوار المرأة في حاضر ومستقبل الإسلام مسألة جوهرية في زمننا الحالي: يأخذنا الترتيب الزمني للسير الذاتية في الكتاب في رحلة من خمسة نماذج دينية إلى ثماني حاكمات، ثم إلى أربع نساء كنّ جزءاً من حركات دينية في حقبة الاستعمار، وأخيراً إلى أربع نساء يمكن القول إن انتماءهنّ إلى الإسلام قد لا يرتبط بشكل مباشر مع المهن التي اشتغلن بها في العصر الحديث. إلا أن أهمية المقاربة تكمن في التنوع الذي لا يمكن أن يمثّلن فيه نموذجاً واحداً أو نمطاً اختزالياً بسيطاً، بل يمكن صياغة سردية جديدة للإسلام والمواجهة المحتدمة في داخله بين القديم والجديد والنزعات المنادية بإصلاحه، ناهيك بالمواجهات المحتدمة بينه وبين الغرب، من خلال تتبّع سير تلك النساء الملهمات في التقى والفقه والذكاء والروحانية والنبوغ العلمي. سيَر نستلّ منها مجموعة من النماذج المشرقة التي سلّط كتاب كمالي عليها الضوء في مناسبة «يوم المرأة العالمي».
فاطمة الزهراء (حوالي 612م-633 م):
بضعةٌ من النبي محمد

قال عنها النبي محمد: «فاطمة بضعة مني»، ويأتي كلّ المسلمين على ذِكر فاطمة، ابنة النبي محمد، بالتقدير والاحترام. كما اشتهرت بألقابها: الزهراء والطاهرة والصدّيقة والمباركة والرضيّة والزكيّة والسيدة والبتول وغيرها. برزت في السيَر النبوية الأولى مرحلتان مهمتان من طفولة فاطمة، إذ عانت مرارة الحزن عندما توفيت أمها خديجة في عام 619 م. أما الحادثة الثانية، فتعكس الصدمة التي مرّت بها عندما شهَدت سوء معاملة أهل مكّة لأبيها العزيز. تزوّجت فاطمة عليّاً في المدينة، خلال السنة الأولى من الهجرة، وبالنظر إلى الشكّ الذي يعتري السنة التي ولدت فيها فاطمة، فإنّها عند زواجها كانت تبلغ ما بين التاسعة والتاسعة عشرة. وفي كثير من الأحيان كان لهذا الرقم أثر في تحديد التشريع الإسلامي المتعلّق بالسنّ المثالية للزواج. شهدت فاطمة، في الفترة ما بين عامي 622م و632م دعوة النبيّ، وإرشاده لأتباعه، وتأسيسه لجماعة المؤمنين. كانت تحضر في المسجد وهو المكان المقدّس الذي يتحدث فيه النبي إلى أصحابه، ويؤمّهم في الصلاة، وكان أبناؤها الصغار يلعبون معه، حتّى إنهم كانوا يركبون على ظهره أثناء سجوده في الصلاة. كانت فاطمة قوية العزيمة أنجبت خمسة أبناء، ورعت منزلها، وزارت مكّة مرّتين. تصوّر غالبية المصادر ابنة النبيّ على أنها امرأة تتّسم بالإيثار والعطاء، إذ كانت تفضّل الجوع لإطعام المحتاجين من مجتمعها بالقليل الذي امتلكته. وقد سعت المصادر التي تصرّ على إنكار حضور المرأة في التاريخ الإسلامي بشكل عام على تصويرها ضحية للظروف المحيطة بها، إلا أن شخصية فاطمة القوية تتّضح في سلوكها بعد وفاة والدها عام 632م، عندما وجدت نفسها وسط أزمة تأجّجت قبيل اتخاذ القرار بشأن خليفة النبي، إذ لم تقسم أي حادثة تاريخ الإسلام بشكل عميق ومؤثر كما فعلت خلافة النبي. تدهورت صحة فاطمة بصورة متسارعة بعد وفاة أبيها، ودفنها عليّ بنفسه سرّاً في عام 633م بعد اعتراضها على الخليفة لحرمانها من أرض زراعية خصبة (فدك) كان النبي قد وهبها إياها في حياتها. وضع مفسّرو القرآن تفسيرات عدة للآية القرآنية: «إنّا أعطيناك الكوثر»، إذ ذَكَر بعضهم أنّ الكوثر نهر في الجنّة، بينما يرى آخرون، بمن فيهم الشيعة، أن الكوثر مرتبط بفاطمة.


عائشة بنت أبي بكر (حوالي 615م-678م):
خذوا منها نصف دِينكم

كانت عائشة ابنة أبي بكر ما زالت طفلة عندما زوّجها والدها لصاحبه، النبي محمّد في أواخر عام 623م أو مطلع عام 624م. وعلى الرغم من أن عائشة لم تنجب قَطّ، إلا أنّ القرآن يصفها (سورة الأحزاب، الآية 6) وسائر زوجات النبيّ، بأمّ المؤمنين. تُجمع المصادر على أنّها كانت تمتلك ذاكرة مذهلة وذكاءً حادّاً، ولذا روَت الكثير عن النبيّ وسننه بعد وفاته في عام 632م، ولا سيّما سلوكه على الصعيد الشخصيّ. كان النبيّ يأتمنها على أسراره، ويستشيرها، ويمتدح خصالها أمام الآخرين، وقد عبّر عن حبّه الخاص لها، ويقال إنه توفّي ورأسه في حجرها، كما تذكر المصادر أنّ النبي قال: «خذوا نصف دِينكم من هذه الحميراء»، وكانت عائشة تبدي ملاحظاتها في ما يتعلّق بالقرآن، إذ كانت تشير إلى الترتيب المفضّل للآيات، والقراءة والكتابة الصحيحتين لكلمات وعبارات معيّنة. وعندما جمَع المسلمون الحديث والسنّة النبوية مع حلول القرن التاسع الميلادي، أسندوا ما يصل إلى 2210 أحاديث إلى عائشة، كان منها 1200 حديث روته مباشرة عن النبي، وتدلّ هذه الأرقام على مكانتها، حتى إنّ أقوى صحابة النبي لم يتمكنوا من إسكات رأيها أو تجاهله، ولا سيما قد دافع عنها النبيّ حين شكّك بعضهم في المدينة، في «عفّتها» واستقامة أخلاقها، في حادثة يُطلق عليه المؤرّخون اسم «حديث الإفك». حافظت عائشة على مكانتها الاجتماعية المرموقة في أيام والدها الخليفة أبي بكر وبعد وفاته (في خلافتي عمر وعثمان)، وكانت في رحلة حجّ حين سمعت خبر مقتل الخليفة الثالث، فوقفت في صفّ اثنين من صحابة النبي وهما طلحة والزبير، ودعمت المطالبة بثأر عثمان ورفضت قرار عليّ بحقن الدماء، فانطلقت على ظهر ناقة للاستيلاء على البصرة. إلا أنّ علياً قمع المعارضة في ما يعرف بوقعة الجمل، وأبدى احتراماً عظيماً لها، إذ أرجعها إلى المدينة من دون أي أذى. ورغم أن أحد الصحابة ممن شهدوا وقعة الجمل قال إنه سمع النبيّ يوماً يقول: «ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة»، إلا أن الباحثة في علم الاجتماع فاطمة المرنيسي (2015-1940) تشكّك في ذلك، إذ برأيها أن غالبية الروايات حول الفترة التأسيسية للإسلام قد أعيدت صياغتها لأهداف سياسية أو عقائدية. ومن غير المفاجئ أن تلقي الإشارة إلى عائشة بظلالها على المنظور الإسلامي للمرأة، والسياسة، ودور المرأة في السياسة.


رابعة العدوية (حوالي 717م-801م)
أحبّك حبّيْن

تقف رابعة شامخة في تاريخ الصوفية، ويظهر أكثر وصف مفصّل لها في أحد المؤلّفات الصوفية لفريد الدين العطّار (توفّي عام 1217م) بعنوان «تذكرة الأولياء»، وتُغنّى قصائد رابعة في أنحاء العالَم على الطرقات وعلى الشاشات، كما غنّت المطربة أم كلثوم في القرن العشرين قصائد منسوبة إلى رابعة، متصوّفة القرن الثامن، في أحد أفلام السينما العربية الكلاسيكية. ثمة معلومات وفيرة- على الرغم من تناقضها في بعض الأحيان- حول حياة رابعة وأسطورتها. تزعم بعض المصادر أنّ أباها باعها جارية في طفولتها عندما ضربَت مجاعةٌ البصرة. ويضيف بعضها أنها كانت تغنّي لمولاها وهي جارية، وتصفها بعض المصادر الأخرى أنها كانت ذات خدم وحشَم. وثمّة خطيبات وزاهدات شهيرات باسم رابعة، وتتشارك بعضهنّ النسب القبَليّ ذاته، ولربما امتزجت قصصهنّ في سيرة حياة رابعة، ما لا يدَع لنا إلا بعض الحقائق الصحيحة عنها. يشير لقبها «العدويّة» إلى فرع ذي شأن من قريش. لم تتزوج رابعة قطّ، ولم تترك أيّ كتابات لها، غير أنّ بعض المصادر اللاحقة تنسب إليها الكثير من الأقوال والقصص مؤكدة على مكانتها الهامة في أوساط أشهر المتصوّفة المسلمين «حتّى إنه يوماً تبعَها رجُل، فهربَت منه، فسقطَت على الأرض، وانخلعَت يدها، فوضعت خدَها على الأرض وقالت: إني ضعيفة غريبة لا أب لي ولا أُمّ، أسير تحت يد ظالم، ومع هذا انخلعَت يدي، وأنا راضية بجميعها، لكن لا أعلم هل أنتَ (يا ربّ) راضٍ عنّي أم لا؟».
يبيّن مثال رابعة أنه يمكن للمرأة أن تكون من أولياء الله من دون أن تكون من آل بيت النبي، وأنّ كونها امرأة لا يستبعد احتمال بلوغ أقصى مراتب الروحانية، إذ كما جاء في حديث النبي: «إنّ الله لا ينظر إلى صوَركم»، وقد حطّمت الصوفية الأفكار المبتذلة لكارهي النساء من خلال وضع رابعة في هذه المكانة المبجّلة بحضورها الروحاني الفاعل في تاريخ الإسلام، ومما نُسب إليها من شعر: «أحبّكَ حبّين حبّ الهوى/ وحباً لأنك أهل لذاكا، فأما الذي هو حبّ الهوى/ فشغلي بذِكرك عمن سواكا، وأما الذي أنت أهلٌ له/ فكشفك لي الحجب حتى أراكا، فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي/ولكن لك الحمد في ذا وذاكا».


أروى اليمنيّة (حوالي 1050م-1138م)
ملكة سبأ تُبعث من جديد

فقدت أروى والدها أحمد الصليحي في طفولتها، ونشأت في رعاية عمّها علي الصليحي (توفي عام 1067م) الذي شكّل تحالفات مع عدد من القبائل المحلية، وتمكّن بحلول عام 1047من أن يقتطع لنفسه منطقة يحكمها، تمتدّ من مدينة الزبيدة المزدهرة غرباً إلى ميناء عدن الاستراتيجي جنوباً، فنشأ الحكم الصليحي التابع على المستوى السياسي للدولة الفاطمية المترامية الأطراف والمنافسة للخلافة العباسية في بغداد، وعاصمتها آنذاك مدينة القاهرة المهيبة. عندما توفي زوج أروى في عام 1064م ومن بعده ابنها بوقت قصير، تلقّت رسالة من الخليفة الفاطمي عام 1069م تعيّنها وصيّة على ابنها الصغير في حكم اليمن ومسؤولة عن مصالح الفاطميين في الهند. حافظت الملكة أروى على السِّلم في اليمن، إذ كانت تفضّل الدبلوماسية على الحرب، حتى حين كانت ثورات القبائل تهدد حكمها من حين إلى آخر في مدن وحصون مهمة، وأثبتت قدرتها على القتال عند الحاجة، إذ انتقمت بدم بارد من قبيلة غرب اليمن، كانت قد غدرت بعمّها وعدد من أفراد عشيرتها، إلا أنّ مهاراتها الدبلوماسية كانت أكثر أهمية. وبينما جمعت الملكة أروى بين الدعوة الدينية وتشكيل التحالفات والتجارة البعيدة المدى، فقد نشرت الإسلام والدعوة الفاطمية في منطقة حوض المحيط الهندي وازدهر حلفاؤها في اليمن وعمان والهند في مطلع القرن الثاني عشر، وتغنّى رعاياها بالثناء عليها. ومع نهاية الصلاة أيام الجمعة، كان الخطباء يدعون باسمها إلى جانب الخليفة الفاطمي. ويشهد المؤرخون أنّه في عهدها ساد العدل، وكثرت المحاصيل، وعاش الناس في رخاء، كما أثنوا على جمالها حين وصفوها بالسمراء ذات العينين السوداوين. على الرغم من شحّ المصادر التاريخية التي تتناول دور المرأة في الخلافة الفاطمية، إلا أنّ مثال الملكة أروى يبيّن أنه لطالما أُقرّ بالسلطة السياسية والدينية للمرأة في تاريخ الإسلام. يذكر الشعب اليمني المحاصَر اليوم الملكة أروى باعتزاز بصفتها ابنة بلاده، وحاكمة عظيمة، وخير خليفة لملكة سبأ الأسطورية.


الطاهرة قرّة العين (حوالي 1814م-1852م)
بطلة أم زنديقة؟

ولدت فاطمة الملقّبة في زارين تاج حوالي عام 1814م في عائلة من علماء الدين في مدينة قزوين الإيرانية، عاصمة الدولة الصفوية في القرن السادس عشر التي ظلّت معقلاً للإسلام الشيعي حتى القرن التاسع عشر، وتلقّت من والدها الفقه والحديث والقرآن، والقصائد من أمّها المثقّفة أمينة واللغات الأذرية والعربية، ناهيك بالفارسية. في الوقت الذي ولدت فيه الطاهرة، كان جدال بالغ الأهمية قد قسم المؤمنين في غيبة الإمام الثاني عشر (المهدي) عند الشيعة، ولا سيما علماء الدين، بين أصوليين ممن ينادون بجعل السلطة الدينية مركزية وجعل اتّباع أحد المجتهدين واجباً دينياً على جمهرة المؤمنين، وفريق آخر ممن سُمّوا بالإخباريين الذين رفضوا اختزال الإيمان بهذه الصيغة وأصروا على أن الحقيقة الدينية لا يمكن اكتشافها إلا من خلال الاتصال المباشر بمصدرها، وأنه من خلال الإخلاص، يمكن للمرء أن يدخل في تماس روحيّ مع الإمام الغائب. انحازت فاطمة إلى الفريق الثاني وسط غضب عائلتها ولا سيما عمها الذي كان مجتهداً فقيهاً. وبعد فترة مراهقة صعبة أُكرهت فيها الفتاة على زواج فاشل من ابن عمها، سكن الزوجان كربلاء وبدأت الفتاة الفضولية بمراسلة أحد علماء المدرسة الشيخية (أتباع الشيخ أحمد الإحسائي) هناك باسم «قرة العين»، وطلبت منه النصيحة الروحانية، فما كان منه إلا أن طمأنها باقتراب ظهور المهدي، لتنضمّ بعد طلاقها إلى مجموعة صغيرة تطوي الدهر بالصيام والقيام، باحثين عن «الباب» المؤدي إلى العالَم الخفيّ للإمام الثاني عشر. صادفت المجموعة في نهاية المطاف سيداً شابّاً في مدينة شيراز. حلّ الإفصاح بقرب الاتصال الفوري مع المهدي التوتر الحاصل بين إيجاد الإمام في قلب المؤمن والبحث عنه في العالم الخارجي، كما أدى إلى الاستغناء عن المجتهدين كونهم متحدثين باسم الربّ غير معصومين عن الخطأ. اندفعت الطاهرة بمواقف أكثر راديكالية، إذ أعلنت في عام 1846م أن الشريعة الدينية لم تعد قابلة للتطبيق، (ويقال إنّها ظهرت حاسرة الرأس متبرّجة بجمالها الآسر أمام الرجال). وبدا هذا الإعلان تكفيراً جرّ عليها غضب رجال الدين في كربلاء وقم، وسلسلة لا تتوقف من المتاعب مع السلطة القاجارية، إذ قام جلاوزة الشاه بجرّها إلى إحدى الحدائق في شهر آب (أغسطس) من عام 1852م وخنقوها حتى الموت ثم رموا بجثّتها في بئر. يحتفي بعض المؤرخين بطاهرة كونها أيقونة للحركة النسائية في إيران. أما الآخرون فقد لطّخوا سمعتها، بل اتهموها بالسرقة الأدبية في قصائدها، واستمرت صور متباينة للطاهرة: بطلة قدّيسة، وزنديقة خطيرة، قي زمن كانت فيه إيران، قلب الإسلام الشيعي تواجه الفكرة المعقّدة للحداثة. وكان السؤال الملحّ في ذلك الوقت هو اتخاذ القرار بشأن من يتحدّث باسم الدين، وأيضاً سؤال آخَر بالأهمية ذاتها: ما يمكن للدين أن يخبرنا به؟

زها حديد (1950م-2016م):
انحناءات في الزجاج والإسمنت

اشتكت المهندسة المعمارية العراقية زها حديد (1950-2016) في مقابلة أجرتها مع جريدة «غارديان» (تشرين الثاني/ نوفمبر 2012) قائلة: «لن تصدّق المقاومة الهائلة التي واجهتها لأنني عربية، وعلاوة على ذلك امرأة. إنّه أشبه بسلاح ذي حدّين، ففي اللحظة التي تكون فيها أنوثتي مقبولة، يبدو أنّ عروبتي تصبح المشكلة». على مدى حياتها الإبداعية التي يحسدها عليها كثيرون والحافلة بالإنجازات، أعادت زها حديد تعريف العمارة في القرن الحادي والعشرين. تركت بصمتها حرْفيّاً على خطوط الأفق في أهم المدن حول العالم، من لندن إلى شنغهاي، ومن باكو إلى فيينا، ومن سيول إلى نيويورك، وتمثل ابنة السياسي العراقي المرموق محمد حديد (1907-1999) ابن مدينة الموصل الحيويةَ الاجتماعية والإنجازات المبهرة للجيل الرائد من المهاجرين في أوروبا وأميركا الشمالية. بعد مصادرة حزب «البعث» القادم إلى السلطة بانقلاب عسكري لثروات العائلة، أرسلها والدها إلى بريطانيا لتلتحق بمدرسة داخلية، ثم حصلت على الإجازة في الهندسة المعمارية عام 1972من الجامعة الأميركية في بيروت، وانتقلت ثانية إلى لندن، فحصلت على فرصة الانضمام إلى الجمعية المعمارية المرموقة هناك، وحصلت على شهادة الدبلوم بامتياز في عام 1977. تدرّبت زها بعد تخرّجها في «مكتب متروبوليتان للعمارة» في روتردام (هولندا)، لحساب اثنين من أساتذتها السابقِين، وأنشأت في عام 1980مكتبها الهندسي الخاص. اتّجهت بعد تخرّجها إلى إلقاء المحاضرات في كامبريدج وفيينا وشيكاغو ويال وجامعة كولومبيا في نيويورك، إلى جانب مزاولتها الهندسة. منحها حصولها على الميدالية الذهبية في التصميم المعماري عام 1982 دفعة جيدة وبعد ذلك في عام 1988، عرض «متحف الفنّ الحديث» في نيويورك أعمالها، فبلغت شهرتها عنان السماء، لتفوز من بعدها بكل جائزة ممكنة: من «جائزة بريتزكر» (2004) التي تضاهي نوبل في العمارة، إلى جائزة «سترلينغ» الأهم في المملكة المتحدة، وعضوية الشرف من «الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب»، ورتبة الشرف في الإمبراطورية البريطانية (2012) وغيرها. وكما هي حال أعمال العديد من العقول المبدعة الرائدة، لا يمكن وضع أعمال زها حديد ضمن تصنيف واحد، ولم يتورّع النقّاد عن استخدام تسميات مبهمة لوصفها مثل التجريدية والتفكيكية والبارامترية في سياق تحليلاتهم. وفي الواقع، تصوّرت حديد طرقاً لتشكيل الزجاج والفولاذ والإسمنت لم يفكّر بها كثيرون، فكانت النتيجة أن صمّمت مبانيَ يبدو أنها تتحدى قوانين الفيزياء، إذ تتسم تصاميم «مركز لندن للألعاب المائية» الذي شُيّد من أجل الألعاب الأولمبية (2012)، وكذلك دار الأوبرا في غوانزا بانسيابية تجعل المشاهد يظنّ أنّها في حال من الحركة المستمرّة: «تكمن الفكرة في عدم وجود أي زوايا بمقياس تسعين درجة. ففي البدء، كان هناك الخطّ القُطريّ، ويأتي القُطر من فكرة الانفجار الذي يعيد تشكيل المساحة. كان هذا اكتشافاً مهمّاً». لم تبرز زها حديد بكونها مسلمة، لكن ذلك لا يقلّل من أهمية دورها في لفت الانتباه إلى مكانة المرأة المسلمة (والعربية) وتطلّعاتها في القرن الحادي والعشرين.