نيويورك | منذ فترة، زار الشاعر مروان مخول (1979) الولايات المتحدة بدعوة من الممثلية الفلسطينية حيث قدّم أمسيات شعرية في واشنطن ونيوجرسي ونيويورك قبل أن يغادر الى قريته البقيعة في الجليل الأعلى. وقبل أيام، كتب على صفحته على الفايسبوك عما تعرّض له في مطار مرسيليا لدى مغادرته فرنسا حيث شارك في التظاهرات الداعمة لغزة، «ما حدا بأجهزة الأمن الاسرائيلية أن تنتظرني في مطار مرسيليا لتمارس بحقي أبشع أساليب التحقيق والتفتيش وأبشع أنواع الإهانة في العالم».
حرب الإبادة الجديدة التي تمارسها اسرائيل على غزة وأهلها كانت بداية حديثنا مع صاحب «أرض الباسيفلورا الحزينة». يقول: «كم هي بحاجة هذه الدولة غير الطبيعية لتحصد كل شيء طبيعي حولها، فلا تبدو غير طبيعية وهجينة! لو فرضنا أن المقاومة الفلسطينية انتهت، فهل ستنتهي فعلاً مشكلة الاسرائيلي؟ فلا مشكلة للاحتلال مع الصواريخ الحمساوية بقدر ما هي مع الوجود الفلسطيني بحد ذاته. إنّها صراع البقاء في ظل عدو يفقد «عقله» مع تكاثرنا الطبيعي حتى يغدو كالقط المحشور في الزاوية. الفارق الوحيد بينه وبين القط أنّه ـ أي الاحتلال ـ لا يخرمش بل يمزّق أطفال حيّ الشجاعية وينثرها قوتاً لمستقبل مفترس». يأخذنا هذا الواقع إلى سؤاله عمَّ يعني أن تكون شاعراً في وطن تحت الاحتلال؟ يجيب: «سخرية الأقدار تجعل الهموم السياسية مُولّداً للطاقة الشعرية، فتصبح القصيدة رهينة للمسألة السياسية التي تريد التعبير عنها، وأسيرة لها معاً.

يصدر ديوانه في 2015 ويستعد لامسيات في عدد من العواصم

وهنا يدخل الشاعر ليلعب دور الوسيط والموجّه للقصيدة في ظروف كهذه. الشاعر يحاول هنا ألّا يجعل الحالة السياسية قائداً أو محرّكاً للقصيدة، فيحاول ألّا يتسلّق على القضية كي تخرج قصيدته طبيعية عفوية وصادقة. منذ أكثر من 20 عاماً، أحاول أن أكتب من القضية الفلسطينية وليس عن القضية الفلسطينية». لعلّ ما يميّز مخول أنّ والده تزوّج بأمّه اللبنانية فعاش في ظل اختلاف البيئة السياسية بين الاثنين. يعلّق صاحب «رسالة من آخر رجل»: «لم أكن أفهم معنى أن يتزوج فلسطينيّ يساري بلبنانية، وخصوصاً من بيئة مارونية. التناقض بين البيئتين وسماعي لروايتين مختلفتين ومتناقضتين من المجتمع الفلسطيني واللبناني الماروني، حول القضايا ذاتها، جعلاني شخصاً موضوعياً في التعامل مع قضاياهم. أفهم أزمة الماروني اللبناني وأستطيع أن أتفهّم مخاوفه، لا لأنّني جزء منه فقط، بل لإدراكي عمق أزمته التي لا أرى لها حلّاً سوى عبر انتماء الماروني إلى الأرض والشعب العربي الواحد. أمّا بالنسبة إلى والديّ، فما فرّقته السياسة جمعه الحب. أنا ابن ذلك الحب. نصفي الفلسطينيّ هو الذي سيطر على حياتي وميولي السياسية، وبالتالي هو الذي كوّنني وكوّن قصيدتي. منذ البدايات، فهمت ـ رغم وجود بعض التناقض بين الماروني والفلسطينيّ ـ أنّ حلّ مشكلة الطرفين يكمن في حلّ مشكلة الفلسطيني في الأساس، فالكيان الصهيوني هو السبب في وقوع حجر الدومينو الفلسطيني وسقوطه على حجر الدومينو اللبناني الماروني وغير الماروني، وبالتالي سقوط الحجر اللبناني في حفرة لم يحفرها له أخوه الفلسطيني». الملفت أنّ مخّول اسم شعري معروف في الداخل الفلسطيني والعالم، لكنه غائب في الدول العربية، يجيب: «لقد استمدّت جماهيريتي شرعيتها في فلسطين من أنني أعمل على قصيدتي التي هي ـ وللمصادفة – تعمل أيضاً على علاقتها بالجمهور. كما أنّ موضوعات تلك القصيدة تعني القارئ الفلسطينيّ في الداخل، كمسألة الهويّة. أمّا بالنسبة إلى العالم العربي، فهو لا يستثنيني شخصيّاً فقط، بل يستثني كل الجماهير العربية الفلسطينية الشريفة التي ما زالت متشبّثة بالتراب، رغم العقود الستة القاسية. الحاكم العربي هو الذي لا يريد لنا أن نكون جزءاً من أمته، وبالتالي هو من يحاول أن يصهرنا في المجتمع الإسرائيلي، ناسياً أننا امتداد لتلك الأمة. لست مذنباً في أنني أعيش في «إسرائيل»، فأنا لم آتِ إليها إنّما هي من أتت إليّ، هذه المعادلة البسيطة لم تدخل إلى ذهن العربيّ. لعلّ تفادي «التطبيع» هو أحد أسباب هذه القطيعة معنا، لكن لنفكّر قليلاً، هل على العالم العربي أن يتعامل معنا كإسرائيليين؟ وإن كان يريد ذلك فعلاً، فهو عملياً يريد ترسيخ مفهوم أننا جزء ثقافي طبيعي من إسرائيل. وهذا الغبن ـ إن استمر ـ سيكون بداية لكارثة ثقافية أخلاقية بامتياز».
كيف يرى مخول المشهد الشعري العربي؟ «هو يشبه المشهد السياسي العربي. نحن في حضيض حضاري. ومهما تمكّن الشاعر، لن يصل إلى مكانة كمكانة المتنبي، مرحليّاً على الأقلّ، كون المتنبي كان الشاعر الأهم في الفترة الأهم. هناك طفرة حضارية مرت من هنا، فشعراء معاصرون كبار استمدّوا قيمتهم الجماهيرية من التقاء موهبتهم الكبيرة بالحالة السياسية الخاصة التي عاشوا في ظلّها. شعراء المقاومة، مثلاً ـ رغم أهمّية قصيدتهم ـ ما كانوا ليأخذوا هذه المكانة الكبيرة لولا المرحلة الكبيرة هي أيضاً. من جانب آخر، وبعيداً من موضوع الانتشار، أودّ التركيز على القصيدة ذاتها، فأقسّمها إلى تيّارين: تيّار متشبّث بالقصيدة الكلاسيكية، وآخر منفلت خارج على كلّ القواعد، غائر في النثر المجّاني. معظم شعراء التيّارين يقعون في الراديكالية. شعراء القصيدة الكلاسيكية، مثلاً ـ ولا أعني كلّ الشعراء، طبعاً ـ يتشبّثون بالشكل، تاركين الفنّيّة المحدَثة جانباً، فتخرج قصيدتهم متقنة موزونة وفخمة، لكنّها قديمة الصورة في عصر ناطحات السحاب والمكوك الفضائي. ليست لديّ مشكلة مع الشعر العمودي، بل ما أرجوه ألّا يربط الشاعر شكل القصيدة الكلاسيكية بالفكرة وصورتها الكلاسيكيّتين، أن يكتب كيفما شاء، لكن شرط أن تنبض قصيدته من واقعها. أمّا شعراء قصيدة النثر، فمعظمهم يلجأ إليها من باب العجز وعدم الإلمام بأسس الشعر أولها مسألة الوزن. هنا يتخلّى الشاعر عن الشكل لمصلحة الفكرة، ومن يتخلى عن الشكل ضعفاً منه، فليس بمقدوره أن يتمكّن من عرض الفكرة، فيوصلها إلى القارئ بشكلها العفوي السليقي. هذا ما يجعل الكثير من النصوص الجديدة غائمة ومبهمة، ويأتي ذلك، أيضاً، من كثافة الاستعارة التي لا يقف من خلفها هدف شعريّ ما، سوى التعويض عن عجز الشاعر عن الإلمام بالوزن».
بعد جيل شعراء المقاومة الذي تمثَّل في محمود درويش، سميح القاسم، وتوفيق زيّاد، هل يمكن القول إنّ ذلك المثلث قد أضحى مربّعاً، بزيادة ضلع جديد، هو مروان مخّول؟ يجيب سريعاً: «سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيّاد، هؤلاء سقوف شعرية عالية لا يمكن أن نكون موازين لها، لا من حيث الموهبة إنّما من حيث الاختلاف الزمني والتجربي، فمن المجحف أن يُطلب منّا العيش مؤبّداً في ظلّ تلك السقوف! فكما تعرف، لا نبات ينمو في الظلّ. هؤلاء الكبار سقوف فعلاً، ولكنّهم بذلك، أيضاً، تحوّلوا ــ من حيث لا يعلمون ـ إلى مصاطب أيضاً، إذ بنوا لأنفسهم ولنا طابقاً شعريّاً صالحاً للقادمين من جيل الشباب، الذين سيبنون فوقه ومن إرثه عليه طابقاً ثانياً فثالثاً فعاشراً». مشاريع عدة يحضّر لها مخول حالياً، فهو يعمل على ديوانه الرابع الذي «أتوقّع صدوره نهاية عام 2015. وحتى نهاية العام الجاري، سأحيي أمسيّات شعرية في ألمانيا ولاتفيا وفرنسا وفنزويلا وأميركا ودول أخرى».