الوضع الكارثي الذي وصل إليه «المعهد الوطني العالي للموسيقى ـــ الكونسرفتوار» لم يعد خفياً على أحد، وخصوصاً مع تتالي الأزمات. بين الحصص التي تُعطى عبر الشاشة والفروع شبه الفارغة وغير المؤهلة لاستضافة الطلاب كما يؤكد الأساتذة، يقف المعهد الوطني أمام خطر الانهيار الكامل. في المقابل، تنفي إدارة الكونسرفتوار الصورة السوداوية للوضع، مؤكدةً أنّها أنجزت الكثير خلال الأشهر الماضية. غادة غانم من الأساتذة الذين رفعوا الصوت أخيراً، مطالبين بحلول جذرية وفعلية. في اتصال مع «الأخبار»، تعبّر عن امتعاضها وأسفها حيال وضع أساتذة الموسيقى: «هناك تجاهل كبير للمصيبة التي نحن فيها. يُقال للأستاذ إن عليه أن يصبر لأن الانهيار سيمرّ بالقرب منه! هذا ما صدر عن لسان وزير ثقافة. كيف هذا وبعضهم لم يعد يسكن في منزله، وهناك من باع سيارته لتعليم ابنه أو تخلّى عن ثلّاجته؟ أما إدارة المعهد، فتقوم بالخطوات الخاطئة الواحدة تلو الأخرى، وكلّ ما تفعله هو زيارة السياسيين. نحن أكاديميون ولا نعمل في البرلمان أو في الحكومة. هذه التصرفات لا تشبهنا كأساتذة. لذلك، ما كان علينا الا أن ننتفض حيال المبالغ السخيفة التي تُمنح لنا وإن أصبحت بالدولار، علماً أنني لم أعد أتقاضى شيئاً منذ أشهر». وتتابع لاحقاً: «معظم الأساتذة في المعهد يعملون هناك منذ أكثر من 30 عاماً. وكلّ ما أعطيناه ذهب كما لم يعد هناك من ضمان. هذه المؤسسة تابعة للدولة وتابعة لبلد آخر يدفع لها. نحن صورة عن كل ما يخصّ الدولة من وسائط وتعيينات». تكشف غانم من جهة أخرى أن بعض الهبات تأتي للكونسرفتوار ولكنها رافضة لهذا النوع من الحلول الذي سمّته بالـ«حنفيات»: «نحاول كأساتذة إيجاد مشروع بديل، للمواطن الذي يرغب في البقاء في هذا البلد. نشعر بالذل لأننا لم نُعامَل بهذه الطريقة من قبل. أقمنا حفلتين، الأولى كانت تحت عنوان «في أمل» بين أساتذة وطلاب على «مسرح المدينة» الذي نشكره لأنه دعمنا وقدّم لنا المسرح. كان البرنامج كلاسيكياً وغنّيت أنا مع طلابي كما تشارك إدي دورليان المسرح مع طلابه في آلة الغيتار. الحفلة الثانية كانت شرقية، حملت عنوان «بدنا نضل» وكان إيلي رزق الله ضيفنا، وقدّمنا أغنيات لعبد الوهاب وزكي ناصيف. إنها المرة الأولى التي يتعاون فيها أساتذة مع طلاب في حفلة. وسيكون هناك المزيد من هذه الحفلات في مختلف المناطق اللبنانية، وببرامج مختلفة. هذا النوع من الحفلات يرمي إلى تأسيس ضمان للأساتذة. فمن الجميل أن ننشر الفرح والعمل في الوقت عينه. لن نتوقف. هذا هو عملنا. سنجد الحلول والعنوان هو دعم الأستاذ. وقد حصلنا على الكثير من الدعم من ناس يشعرون بوجعنا».

(هيثم الموسوي)

يختصر منسّق آلة الغيتار ورئيس رابطة الأساتذة في الكونسرفتوار إدي دورليان الوضع بالقول: «القطاع العام في البلد كلّه مضروب في ظل الانهيار الحاصل. ما يهمّنا هو القطاع التربوي والكونسرفتوار يقع ضمنه. ساعة الأستاذ 30 ألف ليرة. يقبضها بالدولار على صيرفة. المبلغ سخيف. هناك وعود منذ العام الماضي ولم يتحقق شيء منها. وإن حصل، وفي أفضل الحالات، ستصبح ساعة الأستاذ خمسة أضعاف. ولكن الأمر لن يكون كافياً. خسرنا 70% من القيمة. التغطية الصحية اختفت. تعويضات نهاية الخدمة طارت. هناك اتفاق مع مستشفى بعبدا الحكومي ولكنّ الأخير يعاني من المشكلات، كما أنه ليس قريباً من الجميع. وفي الوقت عينه، هناك إهمال من قبل مجلس إدارة المعهد في إيجاد الحلول لإنقاذ هذا المرجع الأكاديمي الوحيد في لبنان».
يضمّ المعهد حالياً 17 فرعاً موزّعةً على عدد من المناطق اللبنانية، كما يدرّس فيه نحو 350 أستاذاً لمختلف المواد الموسيقية. بعضهم يضطرّ للتنقل من بيروت إلى مناطق بعيدة لإعطاء الدروس نظراً إلى عدم وجود أساتذة في بعض الآلات والاختصاصات في المناطق كلّها. شارك دورليان في لجنة عملت على تحويل شهاداته إلى جامعية. لذلك، يأسف لناحية عدم التواصل معه كونه رئيس رابطة الأساتذة، لا بل تم فسخ عقده من المعهد: «كان الحل الأنسب بالنسبة إلى الإدارة قطع الرأس كي تنهار اللجنة. لم أتسلّم رسمياً الطرد، ولكنني حصلت على صورة عبر الـ«واتساب». يقول الوزير إنه ردّ الصرف لكنني لم أتسلّم أي ورقة رسمية. وأنا الآن لا معلّق ولا مطلّق. الإدارة رافضة لوجود رابطة كي لا تكون هناك مطالبات ولكي يسود الجو الديكتاتوري. ولكن هذا كله يؤذي المؤسسة في الدرجة الأولى. الفروع الـ17 شبه مقفلة. امتحانات نصف السنة لم تحصل، ولا نعرف إن كانت ستحصل في نهايتها. أما التعليم أونلاين، فصعب جداً وخصوصاً في ما يتعلق بالآلة. يحتاج الأستاذ إلى تعليم الطالب كيف يمسك الآلة وتفاصيل أخرى».
يتفق دورليان وغانم على أنّ الإدارة لا تسعى إلى إيجاد الحلول. من ناحيته، يقول دورليان: «يحاولون تقليدنا. فقد دُعي الأساتذة الى إقامة الحفلات مع طلابهم مقابل مبالغ من المال. ولكنها كذبة. الأوركسترا متوقفة عن العمل في حين يُفترض أن تقيم نشاطاً أسبوعياً. كانت هناك حفلة في ذكرى الاستقلال، ثم أخرى أقيمت منذ فترة في بكركي. لكن هذا لا يكفي ولا يمكن العيش من خلاله. 50 دولاراً في الشهر مبلغ غير كافٍ للاستمرار. فوحدها أوتار آلة الغيتار بحاجة إلى التغيير شهرياً بمبلغ 20 دولاراً».
ويشدد دورليان على أن التواصل بين الإدارة والأساتذة مفقود: «هناك وعود. لكنها لا تجلس معنا. فكأنها تقول لنا لا تفكّروا، نحن نفعل ذلك. منذ أن تسلّمت المديرة الجديدة للكونسرفتوار (هبة القواس)، لم نجتمع معها إلا مرّة لتهنئتها وتسليمها مطالبنا. في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلنا إضرابنا. حاول الوزير جمعنا وقررنا فكّ الإضراب. ولكنّ الإدارة عادت وخصمت 75% من معاشات الأساتذة قبل الأعياد، لأنهم أضربوا برغم الاتفاق الذي توصلنا إليه. هناك مناخ من التوتر، بدلاً من أن يكون هناك تواصل، وخصوصاً أنّنا أصحاب حق. أمضيت 30 عاماً في المعهد، وأنا منسّق لآلة الغيتار فيه، لكنني لم أُدع إلى أي اجتماع من أجل إنقاذ الوضع. مع التواصل، يمكن إيجاد الحلول، ولكن في هذا الجو الأمر مستحيل. عوضاً عن ذلك، يتهموننا بأنّنا أصحاب نوايا خبيثة وخلفنا من يريد تدمير المؤسسات في البلد». يكشف دورليان كذلك أن حالة الفروع سيئة إلى حد كبير: «لا عامل تنظيفات، ولا يمكن الجلوس على كرسي أو غسل اليدين حتى».
ساعة الأستاذ 30 ألف ليرة، يقبضها بالدولار على صيرفة، التغطية الصحية اختفت وتعويضات نهاية الخدمة طارت (إدي دورليان)


في المقلب الآخر، رداً على الاتهامات، وبحسب أحد الموظفين الإداريين، تسعى الإدارة جاهدةً إلى تحصيل حقوق الموظفين والأساتذة: «بعض الأساتذة يعتبرون أنّ الإدارة هي الدولة ويحمّلونها مسؤولية تقصير الوزارات. لكنه بلد منهار». ويتابع بالقول: «لطالما كانت رواتب الكونسرفتوار أقلّ بكثير من بقية المؤسسات التربوية على الرغم من أن الموسيقي متخصص وموهوب، وعليه أن يتمرّن لساعات يومياً للحفاظ على موهبته. فليس بإمكان الكلّ أن يكون موسيقياً. قدّمت الدكتور هبة مشروع مرسوم لتحسين الوضع. ولكننا لم نحصل على المال بعد».
من أجل إيضاح الأمور، كان لنا اتصال مع مديرة الكونسرفتوار السوبرانو هبة القوّاس التي نفت كلّ الاتهامات الموجّهة إلى الإدارة: «ليس صحيحاً أنّ وضعنا أصعب من بقية المؤسسات التربوية في القطاع العام. الوضع في لبنان استثنائي. قبلت تسلّم الموضوع بعدما تخلى الجميع عنه. أسمّيه عملاً انتحارياً. لكنه لديّ ثقة وإيمان بأننا سنصل الى برّ أمان».
تعتبر القواس من جهة أخرى أن مجموعة «العشرة أو عشرين شخصاً الذين يرفعون الصوت لا يعكسون رأي الجميع. عدد الأساتذة في الكونسرفتوار يبلغ نحو 365 شخصاً. ما يهمّني هو أن أحافظ على المؤسسة. الجميع يريد الشيء نفسه. لا أقول إن الرواتب تغيّرت بطريقة جذرية وهي ليست كافية. لكن كمرحلة أولى، ما حصلنا عليه لم تحصده أي مؤسسة أخرى في الدولة اللبنانية. بالنسبة إليّ، هذه المؤسسة مهمة بالنسبة إليها، وتسهم في الحفاظ على هوية لبنان الثقافية».
تنفي القواس نقص التواصل بينها وبين بقية الأساتذة، وخصوصاً المنتفضين منهم، مؤكدة على تواصلها مع أحدهم في الصيف الماضي وإطلاعه على الخطوات كافةً. وتتوقّف عند مشاريع الإدارة في هذه الظروف: «قدّمنا حفلات موسيقية برغم كل الظروف الصعبة. تبرّعت بالكثير الى الكونسرفتوار. والكل يعرف ذلك. وأفعل هذا لأننا أصحاب قضية في لبنان، وإلا كنت اهتممت بمصالحي خارج البلد التي توقفت في هذه الفترة». تقرّ القواس من ناحية أخرى بأنّ كل تركيزها كان، حتى الآن، على تأمين المال وتوزيعه. بعد الحصول عليه «سنعمل على المنهج. ونفتح اختصاصات جديدة في الأشهر التالية كما سنضع الأنظمة الداخلية. المناهج المعتمدة بحاجة إلى تغيير وأعقد حالياً اتفاقات مع سفراء وجهات وأكاديميات في العالم لرفع المستوى التعليمي والتقني».

يضمّ المعهد حالياً 17 فرعاً موزّعةً على عدد من المناطق اللبنانية، كما يدرّس فيه نحو 350 أستاذاً لمختلف المواد الموسيقية


تعود القواس إلى مساهمتها في تأسيس الكونسرفتوار في تسعينيات القرن الماضي، وتؤكد أنها تسلّمته أخيراً ناقصاً: «أسهمت في بناء فرق الأوركسترا وفي الموازنة الأولى. وبقيت بعيدة عن الكرسي الإداري. عندما تسلّمت الكونسرفتوار حزنت لأنّ الأوركسترا التي كانت تضمّ 110 عازفين، باتت اليوم تتألف من 30 شخصاً. لا أكفّ عن القول الآن للقيّمين على الدولة اللبنانية من وزير الثقافة إلى وزير المالية وصولاً إلى رئيس الوزراء إنّ دعم الموسيقى والمعهد يجب أن يكون مختلفاً عن بقية المؤسسات التربوية. الموسيقي نادر ولا يمكن أن نجده كل يوم في لبنان. الموهبة نادرة، وخصوصاً تلك التي تتطور وتصل إلى شهادات. 400 شخص لن يحدّوا من إمكانات الدولة لكن يمكنهم بناؤها. لذا علينا أن ندعمهم. نحن قادرون على فتح دبلوماسية ثقافية وهي موجودة في العالم كله، لكنّنا لا نستعملها. الموسيقى يمكنها أن تكون أحد أعمدة النهوض الاقتصادي. نطلب مساعدتنا في هذا الانهيار لنكون جزءاً من القيامة. وقد لقينا تجاوباً غير عادي. أصدرت في بضعة أشهر 15 مرسوماً، أحدها تحوّل إلى مجلس النواب. وهناك مراسيم أخرى تنظيمية وقانونية في المستقبل. لا يملك الكونسرفتوار أي نظام داخلي أو قانون. اخترت أن أبدأ بتعديل الرواتب والأجور. وحصلت على زيادة مئة في المئة منذ أيام على الزيادة التي حصلت عليها في شهر 12. أما اتفاقية مستشفى بعبدا، فسمحت لعدد من الموظفين بالخضوع لعمليات جراحية مجاناً. وهناك اتفاقية صحية أكبر ستأتي، كما أنّ هناك مساعدات دولية آتية، والأهم أنّنا نحاول العمل على منظومة اقتصادية كي نتمكن من رفع الرواتب من الخارج أيضاً وليس فقط من الدولة».