خرجَ محمد جمال (1934 - 2023) إلى الحياة الفنية من بيئة اجتماعية لم تكن تحبّذ العمل الفني لأبنائها جرياً على العادات التي تقول إن حياة الفنان متخبّطة مالياً ومعنويّاً، وصاخبة أو غير سويّة بالتحديد، لكنه تهرّب من وظيفته في «شؤون كهربائية» وقرّر دخول عالَم الغناء والتلحين. ساعدَته وسامته، عيناه الزرقاوان وملامح الشكل الرومانسي، على اختراق المداخل الفنية، فبدأ الغناء وسجّل بعض الأغاني الشعبية التي انتشرت بسرعة قياسية، وفرَض نفسه في وقت كانت الساحة تضجّ بأسماء معدودة، فبات واحداً من بينها. ولأن عملية انتظار الألحان من الآخرين كانت في الإذاعة اللبنانية منظّمة بانتظار الدّور أيضاً، أي أن هناك لائحة أسماء يجب أن تتم الاستجابة لها، كلٌّ في توقيته، فقد طرَق باب التلحين. ومع أن ألحانه كانت سهلة التركيب إلى حدّ الضعف أحياناً وتعتمد على جُملة واحدة تتكرر في شكل متتالٍ، فإنه عرف شهرة عالية بها من «بدي شوفك كل يوم» إلى «الدنيا حب».
محمد جمال

إلّا أنّ المفاجأة كانت في الأغنية الأخفّ والأقرب إلى مزاج الأطفال في كلماتها وتركيبها «آه يا إم حَمادة» التي حصلت على انتشار مفاجئ وصاعق وردّدها الكبار والصغار ببساطة مطلَقة. وقد حاول بعض النقاد يومها معرفة سرّها في الذيوع، فلم يجدوا إلا القول إنها أغنية تُقال أو تُحكى وكأنها قصة لا تتطلّب أداء غنائياً، وكان واقع التلحين يومها (السبعينيات) مزدهراً وفيه مشقّة البحث والتنقيب عن جُمل لحنية تمتاز بالمتانة والصلابة، فجاءت «آه يا أم حمادة» سهلة وخفيفة وبسيطة كسَرت القواعد المتّبعة، سواء في الكلمات أو اللحن أو الأداء الغنائي!
ثبَتَ محمد جمال في لبنان في حرب 1975 ولم يفكّر في الهجرة لأن إمكان رجوع البلد إلى حال الأمان، كان ممكناً في عيون الجميع. لكنّ تصاعد القتال وتمدّده، فضلاً عن الأمن الذي فُقِد في أغلب المناطق اللبنانية بحيث بات على محمد جمال إذا أراد زيارة أهله في الشمال أن يقصد الطرق الملتوية هرباً من الحواجز المسلّحة، يُضاف إلى ذلك أن نسبة الحفلات الغنائية قلّت بل تقلّصت... كل ذلك دفعه إلى السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية وكان أول فنان يهاجر نهائياً. كان يعود من وقت إلى آخر مستطلعاً ما يمكن فعله في البلد، فيصاب بالخيبات إلى أن قرّر البقاء في الولايات المتحدة من دون حتى أي تفكير في العودة!
يُعتبَر مع المغني فهد بلان صورة عن التنوّع الذي كان في غناء أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات


سببٌ آخر كثّف واقع الخيبة عنده هو أنّ هناك أجيالاً جديدة ظهرت من المغنين والمغنيات كان برنامج «استديو الفن» يضخّها في أوردة الغناء اللبناني، احتلّت مكانه ومكان غيره من النجوم الذين تقاعدوا باكراً وتضاءلت فعاليتهم ولو أنهم ظَلّوا في لبنان.
هناك مرحلة ذهبية لمحمد جمال هي التي تزوّج فيها بالمغنية طروب وشكّلا ثنائياً جميلاً ولطيفاً وتوزّعت حفلاتهما بين لبنان وسوريا. طروب كانت من نجمات ذلك الزمن البارزات اللواتي تميّزن بالجمال والصوت العذب، ناهيك بمحاولات التلحين التي كانت تنجح عندها مرة وتفشل مرّات. ومع أن ديو جمال-طروب لم يعمّر طويلاً، إلّا أنه مثّل إنقاذاً لهما من روتين الأعمال التي كانا يقدمانها قبل ذلك.

كسرت «آه يا أم حمادة» القواعد المتّبعة سواء في الكلمات أو اللحن أو الأداء الغنائي

بعض أغنيات محمد جمال لا تزال محبّبة إلى اليوم، ومنها «بدي شوفك كل يوم» التي ردّدها كثُر في برامج الهواة الجدد واعتبرها مُغنّو الحفلات زاداً غنائياً مطلوباً من الجمهور. غير أن خلافات عدة حدثت بين محمد جمال وبعض المغنين والملحنين وحتى العازفين حول أبوّة ألحانِ أغنيات بعينها، كان ينسبها إلى نفسه فيقال إنها من تلحين فلان أو آخر. وهذا كان شائعاً في لبنان، لكنه كان شبه مُحاصَر ومعروف. أمّا بعد دخول أفواج مغنين ومغنيات وملحنين وتدخّل شركات الإنتاج الغنائي لإدارة عملية تسجيل وبيع الأسطوانات ثم الكاسيتات، فقد ضاعت الطاسة، وأُتخمَ سوق الأغنية بالنتاج الفني، فلم يعد بالإمكان إحصاء الأخطاء والخطايا التي تُرتكَب في فن الغناء.
رحل محمد جمال بعيداً عن الوطن الذي أحبّه وأنشدَه أغنيات واجتهد فيه ليكوّن اسماً ثابتاً في أرجائه ولدى جمهوره. ويُعتبَر هو والمغني فهد بلان ــ رغم اختلافهما الجذري في الشكل واختلاف أدائهما ـــ بمثابة صورة حقيقية عن التنوّع الذي كان في غناء أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات، وفي عقلية الجمهور ومتطلّباته المتناقضة أحياناً (وهذه طبيعة) تجاه نجوم الفن.