نادراً ما تقدم لنا الشاشة الصغيرة «عرضاً لا يمكن رفضه»، وقليلة هي الأوقات التي نرى فيها مسلسلاً يُحدث ثورةً في عالم التلفزيون. بمعنى أن يكون واضحاً وملمّاً كلياً بهذا الوسيط وكيفية التعامل معه ومع مشاهديه. لم تكن يدا المؤلف جيسي أرمسترونغ ترتعشان عندما وضع الحلقة الأخيرة من سلسلته «الخلافة» (2018-2023). نهاية مدمّرة، لكنها نتاج طبيعي لهذه القصة وخاتمة جديرة بأحد أفضل المسلسلات في السنوات الأخيرة، إن لم يكن في التاريخ. على مدى مواسمه الأربعة وحلقاته الـ 39، شكّل المسلسل دراما إنسانية نفسيّة معقّدة وصادقة، وكوميديا تعمل بروح الدعابة المحرجة، وفسيفساء ميثولوجية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإعلامية في الوقت نفسه. ثراء عميق في كل أبعاده، مزج الفقه السياسي لمكيافيللي وتراجيديا «الملك لير» لشكسبير، ليصبح «الخلافة» تتويجاً لربع قرن من الأعمال الدرامية عالية الجودة من HBO.
بفضل «الخلافة»، يمكننا رؤية لمحة عن عالم «الأقليات» فاحشة الثراء... عالم الواحد في المئة، ونحن مستمتعون ومذعورون على حد سواء بما نراه. في الوقت نفسه، نواجه حقيقة أنّ الولادة لعائلة ثرية تبدو امتيازاً، إلا أنّ غياب الحبّ بين الوالدين قد يجعل الحياة مختلّة، بل مأساوية. إن أفراد عائلة روي الرأسماليين الذين يمثّلون القاع الأخلاقي والروحي، يذهبون إلى أي مكان بالمروحيات أو الطائرات الخاصة أو مواكب السيارات. وإن ساروا على أقدامهم، فهم يسيرون مسيرة الملوك المستبدين المتعطشين للدماء تماماً كما في الإمبراطوريات القديمة القمعيّة. هم الذين يطلقون النار على الخنازير البرية المارة أمامهم على بعد أمتار، تحت ذريعة الصيد. هم الذين يستطيعون التخلص من وليمة من ألف طبق مصنوعة من الدخل السنوي لدولة نامية، فقط لأنهم يشمون رائحة كريهة لا يعرفون مصدرها. هم الذين يخططون للأزمات، يختارون رؤساء الجمهوريات، وينسجون خططهم السامة ضد الجميع في الفلل الفاخرة واليخوت بحجم الفنادق.

وهم الذين يطعنون بعضهم في الظهر أو في الوجه، أينما استطاعوا. جيسي أرمسترونغ والكُتّاب والمخرجون والمخرجات العباقرة وضعوا في أفواه هذه الوحوش البشرية أفضل الحوارات والنصوص المكتوبة في السنوات الأخيرة. انتهى «الخلافة»، تم حلّ اللغز بمن سيخلف لوغان روي (براين كوكس) بشكل لا يُنسى. سيكون هناك أولئك الذين يقرعون الأجراس بالفعل، ويتحدثون عن إحدى أفضل النهايات في تاريخ الشاشة الصغيرة. لكن على الرغم من أنّ هذا الاستنتاج يحمل الكثير من الحقيقة، إلا أنّ المناقشة حول ذلك، تستحق تفكيراً أكثر هدوءاً ودراسةً. نُحتت الحبكة على مواسم عدة، وخلقت مساحتها الخاصة في الدراماتورجيا، بعيداً عن التوقعات العالية والحاجة إلى التواءات ومفاجآت في السرد، للتركيز على شيء أشدّ تعقيداً وهو: الإنسان. بعيداً عن السحر المرتبط به، يقوم المسلسل على حبكة تعمل بشكل مثالي، مثل التيلينوفيلا المأساوية اللذيذة الخالية من العيوب. لهذا، يحترم المسلسل جوهره الخاص، من دون الوقوع في الفخاخ التي أحدثتها شعبيته المستحقة. قدم «الخلافة» كل نفايات البلوتوقراطية. مع ذلك، لا يتوقع أرمسترونغ ولا يطلب من أي شخص التعاطف مع هذه الشخصيات. وُضعت قصة «الخلافة» بدقة، بحيث يكون لها مركز ثابت ونواة، وتتفرع لتشمل الكثير من القضايا الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. باختصار، تدور القصة حول عائلة روي، مختلّة التوازن التي تحاول التماسك معاً بسبب الصراع على الخلافة في موقع المدير التنفيذي لـWaystar Royco، الشركة القوية في صناعة الإعلام والترفيه. لوغن أب لأربعة أولاد: كيندال (جيرمي سترونغ)، روميلوس أو رومن (كيران كلاكلن) شيڤون أو شيڤ (سارة سنوك) وزوجها توم (ماثيو ماكفيدن) وكونور (آلان روك) البعيد نسبياً عن أعمال العائلة، وطبعاً قريب العائلة غريغ (نيكولاس برون). هذه هي القصة الرئيسية التي تتفرّغ منها قصص لا تحصى، لن ندخل في التفاصيل لكيلا نفسد المتعة لمن لم يشاهده بعد.

إذاً، الوضع معقّد لأن عائلة روي تتكون من أشخاص جشعين ومتعطّشين للسلطة، عدا عن مشكلاتهم الشخصية والنفسية، وجميعهم لا يثقون ببعضهم، والكل يحاول الاستيلاء على الشركة بوجود الأب أو بغيابه. هذه القصة العادية، حوّلها أرمسترونغ إلى حالة عالمية لا يكفيها حتى الكوكب. الرابطة الأسرية خانقة ومقيدة، والدم يتدفق ببطء مثل مياه سامّة عبر قلوبهم الفارغة. تُرسم القصة بتفاصيل مبهرة، الغزو والفساد المدمر لشركة عالمية تنتشر مثل مرض، وتستهلك نفسها شيئاً فشيئاً من خلال عمليات الاستحواذ التي تنطوي على مبالغ لا حصر لها. صفقات قذرة، وسفك رؤوس الأضاحي، وحماية وتغيير رؤساء الجمهوريات والسفراء، ناهيك عن المشكلات الشخصية ضمن العائلة الواحدة. شركة Waystar Royco، التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات وتديرها عائلة واحدة، تشبه إلى حد كبير روبرت مردوخ وأطفاله، «تايكون» الإعلام الذي تغطي إمبراطوريته كل شيء تقريباً من الصحف إلى قطاع الإعلام المرئي، ويمارس نفوذاً سياسياً أيضاً مع «فوكس نيوز» منذ عقود. لكن «الخلافة» ليس في الحقيقة تصويراً خالصاً لمردوخ وسلالته. إذ أوضح أرمسترونغ أنّ لا عائلة واحدة رئيسية للمسلسل، فهي تجمع الكثير من القصص التي تبدأ مع حوت الصحافة البريطاني روبرت ماكسويل وعائلة هيرست وحتى الملك تشارلز الذي انتظر عرشه لسنوات طويلة.
الحوارات مكتوبة ببراعة وخالية من الصوابية السياسية


جاذبية «الخلافة» تكمن في تطوير الشخصيات، وفي نغمة تكاد تكون فريدة من نوعها في الخيال التلفزيوني. معظم الأبطال أغبياء تماماً، خرقاء وعاجزون عن فهم ما يحدث حولهم أو العالم الذي يعيشون فيه. يعرف أرمسترونغ كيفية أخذ عناصر الواقع وتشويهها بهدف إظهار الحقيقة العميقة من دون التضحية بعناصر الكوميديا والدراما. في «الخلافة»، هناك شيء أبعد من الحبكة: كل حلقة عبارة عن عرض مسرحي بحيث يتم تطوير خصائص الشخصيات، وفي كل حلقة جديدة يتم خلط الكثير من الأوراق، ونحن نجلس لكي نلتقي بهؤلاء الأشخاص غير العاديين الذين ينفروننا ويجذبوننا بالتوازن نفسه. كما يغرسون فينا حناناً معيناً تجاههم في أكثر مواقفهم غباءً أو بوساً. العداء المفتوح الذي يسود بين أفراد العائلة، يجعل المشاهدة مسليةً. يطلقون الإهانات كلما كان ذلك ممكناً وبطريقة إبداعية ومؤذية في آن. يهجمون دوماً لأنّ الهجوم هو أفضل أشكال الدفاع. يبذل أرمسترونغ الجهد والشجاعة لإتقان تحوّلات وتطوّر شخصياته البشرية، مع تجاهل التوقعات الأولية للمشاهد. يستغرق الأمر وقتاً وصبراً وبعض البصيرة لجعل لوغان وكيندال وروي وشيڤ ورومان وبقية البؤساء، يأخذون مكانهم الطبيعي، لنبدأ بالتواصل معهم نسبياً. ولأنّ هؤلاء الأشخاص بطبيعتهم غير معروفين، لا يمكننا تخيّل حياتهم، رغم أنّها أمامنا. لكن عندما تتّضح دوافع الشخصيات ومخاوفها، يتم تحديد خطوطها الرئيسية، ويتم تظهير خيوط الحبكة التي تحلل شخصياتهم وأفعالهم بزخم متزايد، وبالتالي يصبح «الخلافة» مسلياً بشكل غريب.
ما يدفع «الخلافة» إلى الأمام ليس الحبكة وحدها، إنما الشخصيات والحوار. تحمل الشخصيات كلّها مأساتها الشخصية التي لم تتمكّن من تجنبها. لم يكن كيندال قادراً على التعلم من أخطائه، بل واصل الوقوع في الحفرة نفسها مراراً. وعلى الرغم من أنه الأكثر طموحاً من بين أشقائه، إلا أنّ الغرور وطبعه يقفان في طريق حساباته. رومان لم يكبر ليصبح على مستوى المهمة، ولو أنّ لديه الميل للقيام بذلك، إذ إنّه لا يؤخذ على محمل الجد بسبب سلوكه الطفولي. وشيڤ وقعت على قائمة المحتملين للخلافة بالمصادفة بجانب عملها السياسي. هي ماكرة، لكنها تفوّت دوماً فرصة التفوق على نفسها في اللحظات الحرجة.


خلال السنوات الأربع، حصلنا على عدد لا يحصى من التقلبات المكتوبة بذكاء، ولكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام هو توصيف أفراد العائلة، والمآسي الإنسانية التي تختمر وراء العديد من التلاعبات والخيانات وألعاب القوة والمؤامرات. بدون تعاطف أو أي سمة تشبه اللطف، لا يزال لوغن قادراً على جعل الوغد محبوباً، ما يخلق لدينا، نحن المشاهدين، إحساساً بالذنب أمام رؤية روي العجوز غاضباً. يسيطر براين كوكس على جميع المشاهد التي يشارك فيها، ويتمكّن من إثارة الخوف بمجرد نظرة أو كلمة صغيرة. كما نشعر بالأسف تجاه أولاده بسبب ضعفهم البشري والأسباب الكامنة وراء ذلك. تتمثّل إحدى السمات الخاصة بـ «الخلافة»، في أنه لا يوجد شخص يمكننا التعاطف معه بوضوح، وغالباً ما يُظهر الشخوص افتقاراً شبه كامل حتى في التعاطف مع بعضهم. يستفيدون من الآخرين، ويثبتون أنّ الجوع إلى السلطة أقوى من أي شيء آخر بالنسبة إليهم. يعود الفضل لأرمسترونغ وفريق الكتابة لإبقائنا معلّقين بمصير هذه الشخصيات، نظراً إلى التوظيف الجيد الذي تتطور شخصياتهم على أساسه، بينما تبقى صدمات الطفولة ماثلة دائماً، ما يجعلنا، في بعض الأحيان، ننظر إليهم بعين الشفقة.
بعد ثلاثة مواسم عظيمة، كان الموسم الرابع والأخير منتظراً بشكل كبير. بدأ بالدقة المعتادة بين فن التفاوض التجاري والكوميديا البشرية الدرامية. إنه لأمر شجاع، أن يخرج «الخلافة» من منطقة الراحة، ويسمح لنفسه بالتطور ليصبح أكثر من حبكة رئيسية في موسم واحد. بدءاً من الحلقة الثالثة المعنونة «زفاف رومان»، تبدأ نقطة التحول في مسار العائلة والمسلسل بأكمله. تأتي الضربة مفاجئة، ولكن بشكل طبيعي في الوقت عينه. إذاً، بعد تحرر المسلسل من أكبر نقطة ارتكاز له، ينتقل «الخلافة» في الجزء الأخير من الحلقات بطريقة حزينة، حتى الانتصارات في جوهرها تصبح هزائم في حياة الشخصيات.
بعد «زفاف رومان»، إحدى أفضل الحلقات في تاريخ الشاشة الصغيرة، يطرق أرمسترونغ باب السياسة والإعلام بطريقة أقوى وأعمق من ذي قبل. «أميركا تقرّر» مثال يُدرَّس حول دور الإعلام في الحياة السياسية، والأهم دوره في فوز أو خسارة مرشح لرئاسة الجمهورية في أميركا. وظف أرمسترونغ بطريقة مثالية كيف أنّ الأحداث السياسية الكبيرة، تصبح بمثابة خلفية لآلام وصراعات آل روي. يزداد الأمر تعقيداً من خلال الجمع بين المؤامرات الشخصية البراغماتية والتطلعات الاقتصادية التجارية، التي تعمل بشكل جيد بسبب الديناميكيات غير المتوقعة للعلاقات الإنسانية التي مارستها هذه السلسلة منذ اليوم الأول.

الحوارات في «الخلافة»، مكتوبة ببراعة وخالية من الصوابية السياسية، فتبدو نابضةً بالحياة والشتائم والإهانات والفكاهة الساخرة، ما يعطي المسلسل نكهة خاصة. وبينما تجري عمليات الاستحواذ بمليارات الدولارات والحملات الرئاسية والاجتماعات المصيرية أمام أعيننا، تأتي الكوميديا لتضفي على المشاهد نوعاً من السوريالية، القابلة للتصديق بشكل كبير. عمل أرمسترونغ مع الكثير من الكتّاب والمخرجين في المسلسل، ولكن يبرز اسم المخرج مارك ميلود في الحلقات المصيرية. أثناء مشاهدة المسلسل، خصوصاً الحلقات التي يتعاون بها أرمسترونغ وميلود، تتصرف الكاميرا كأنها تمسح الوجوه بحثاً عن أدلة، وتحاول تتبع الدراما والتنبؤ بها. طوال الوقت، نشعر كما لو أنّ الكاميرا هي وجهة نظرنا، ونحن شخصيّة تقترب من كل مشهد وتتفاعل معه عندما ينكشف شيء ما. ونظراً إلى أسلوب الملاحظة في التصوير، تتطور العلاقات الحميمية مع الشخصيات وتضعنا في مكان غير مريح نسبياً، نتمنى به أن تنتهي الحلقة ولا تنتهي في الوقت نفسه. تتحرك الموسيقى التصويرية التي ألّفها نيكولاس برتيل في المشاهد، بحيث يمكننا سماع ألحان غير متناغمة، يتم وضعها في غير محلها عمداً وبشكل مباشر لتظهر الهشاشة على الشاشة، نظراً إلى أنّ عائلة روي مختلة إلى درجة أن هذا النوع من الانكسارات يجب أن يتم تمثيله بطريقة ما في الموسيقى.
في «الخلافة»، رُسم عالم الأقوياء بطريقة صارخة تماماً، بكل قساوته. مع ذلك، تجد هذه الشخصيات مكاناً في قلوبنا بشكل مفاجئ بسبب التعامل مع التناقضات بمعايير هائلة وذكاء في هجاء السخرية وإدانة التلاعب الإعلامي السياسي، في خضم ميلودراما عائلية تسودها الكوميديا السوداء وبنبرة وإيقاع نموذجيّين يشبهان إلى حد ما شخصيات وروح «لوني تونز»، عدا الإحالات إلى الأساطير الإغريقية وتشبّع المسلسل بمراجع يونانية ورومانية، ما يزيد الأجواء قدماً وشؤماً.

Succession على
HBO Max و osn+