أتى الذكاء الاصطناعي المطوّر Advanced AI وما كان قبله لم يكن كما بعده. قبل فترة، أعلن ورثة «كوكب الشرق» أم كلثوم عن رفعهم دعوى قضائية ضد الملحن والمغنّي المصري عمرو مصطفى بعدما «أطلق أغنية من تلحينه للراحلة أم كلثوم مستخدماً الذكاء الاصطناعي في إعادة تخليق صوتها من جديد» تحت حجّة «إحياء التراث» كما أشار الملحن المصري الهاوي للجدل والضجة. برومو الأغنية التي أسماها «أفتكرلك إيه» الذي نشره الملحن المصري على صفحته على إنستغرام، أثار ضجةً كبيرة في مصر والوطن العربي. سرعان ما تم التصافي بين الطرفين، وأُوقف العمل عليه، لكن الأمر فتح باباً لا يمكن إغلاقه نهائياً. الرد على هذه التصرّفات من خارج العائلة، جاء من المنتج محسن جابر الذي أوضح في إحدى المقابلات التلفزيونية أنه «اشترى كل الحق الحصري لأغنيات أم كلثوم من ورثتها»، مشيراً إلى أنّ في الأمر «إساءة لها»، سائلاً بنوع من التحسّر: «ليه نلبّس أم كلثوم شورت». لم يكن عمرو مصطفى وحيداً في هذا الفعل عربياً، إذ انتشرت أغنية للراحل عبد الحليم حافظ، فما كان من ورثته إلا أن أصدروا بياناً أشاروا فيه إلى أن التجربة التي ظهرت فاشلة و«في غاية السوء»، مؤكدين أنهم سيرفعون دعاوى في حال تكرّر الأمر. لكن اللافت في بيانهم أنهم أشاروا إلى أنّهم قد يستعملون هذه التقنية يوماً ما، و«ستكون بأعلى درجة من الجودة والحرفية لإمتاع عشاق العندليب، وستكون برضى من عشّاقه ومحبيه».
غربيّاً، كان الموضوع سباقاً، فقد انتشرت أغنية Heart on my sleeve باعتبارها أغنية تجمع بين دريك وذا وييك إيند عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحققت ملايين المشاهدات وجرى تشغيلها مئات آلاف المرات عبر تطبيق سبوتيفاي المعروف، ليُكتشف لاحقاً أنها أُنتجت كلياً بالذكاء الاصطناعي عبر مؤلف موسيقي يدعى غوست رايتر (ghost writer). طبعاً الأمر لم يُعجب لا المؤديَّين اللذين استُخدم صوتاهما، ولا الشركات الأصلية الراعية لهذين النجمين. لكن من الواضح أنَّ الموضوع لم يكن إلا البداية كما أشار رايتر عبر صفحته على اليوتيوب. وسحبت شركة «يونيفيرسال ميوزك غروب» الأغنية من التداول بحسب حقوق الملكية، لكن ذلك لم يمنع انتشارها وبقاءها عبر الشبكة العنكبوتية على حساباتٍ كثيرة. وتركت الشركة تساؤلاً مهماً حول أهمية وفائدة الذكاء الاصطناعي وطريقة استخدامه بطريقة «تخرّب النظام الإيكولوجي الموسيقي العالمي». يُذكر أنّ مواقع كثيرة ــ بسيطة أو شديدة التعقيد والاحترافية ــ تنتشر بكثرة على الشبكة العنكبوتية مثل elevenlabs Ai حيث يمكن بسهولة إنشاء «محتوى موسيقي مهجّن» عبرها أو Altered AI الذي يمكن لمستخدمه أن يغيّر صوته إلى صوتٍ يجده أكثر مناسبة، أو حتى صوت شخصية مشهورة؛ أو Murf Ai الذي يمكّن المستخدم من إنتاج تعليقات صوتية خاصة. هذه المواقع التي تقدّم خدمات مجانية سرعان ما تطلب اشتراكاً شهرياً أو سنوياً رمزياً. هنا، قد يُطرح السؤال: هل يستطيع أيٌ كان إنتاج أغنية لأم كلثوم مثلاً؟ للحقيقة، الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو عليه: مبدئياً يمكن ذلك، لكنه لن يكون حقيقياً وواقعياً أو حتى محترفاً، فمعظم هذه المواقع تقدّم ما يمكن تسميته بـraw data، بمعنى أن الأغنية ستكون بحاجة إلى الكثير من «التشذيب» و«التقطيع والعناية» حتى تخرج بالشكل اللائق. من هنا فإنّ احترافية صانع هذه الموسيقى تجعله قادراً على إنتاج أغنية محترفة ذات جودة.
مواقع كثيرة تنتشر على الشبكة العنكبوتية مثل elevenlabs Ai


في السياق نفسه، كان الممثل الأميركي توم هانكس قد أثار ضجةً كبيرة حين أشار إلى أنّه «سيشارك عبر تقنيات الـ «إيه آي» في أفلام حتى بعد وفاته»، موضحاً في «بودكاست آدم بوكستون» أن هذا الأمر سيحدث ولو أنه يثير تحدياتٍ قانونية. ما لم يقله الممثل الأميركي هو أنَّ ذلك سيفتح الباب على مصراعيه أمام أي شخص لاستخدام هذا الممثل أو ذاك في أفلامٍ لم يمثلوها، أو حتى ربما رفضوا أداءها في السابق. وكان قد استُخدم الذكاء الاصطناعي في أفلام حين توفي الممثل بول وولكر قبل الانتهاء من تصوير فيلم Fast 7 ضمن سلسلةFast and Furious المعروفة، وجرت إضافة مشاهده الباقية بهذه الطريقة كما أشار جو ليتري أحد صنّاع المؤثرات الأشهر في العالم. وأكد صنّاع الـCG (المؤثرات المنتجة بواسطة الكومبيوتر) أنهم صنعوا أكثر من 350 كادراً صورياً للممثل الراحل استُخدمت في العمل. وبعيداً عن النجوم وتصريحاتهم، قبل عامٍ تقريباً، ظهرت تقنية تسمى deep fake التي أتت تسميتها من تطبيق للهواتف حمل التسمية نفسها، حيث يمكن لشخصٍ عادي وضع وجهه بدلاً من وجه شخصيةٍ مشهورة في مشهدٍ معروف. هذه التقنية التي عُدت خطيرة آنذاك، اقتصر عملها، عبر ذاك التطبيق، على تغيير وجوه معروفة في مشاهد مشهورة للغاية. التطبيق الذي اعتُبر ثورياً آنذاك، أشار كثيرون إلى أنه يمكنه تغيير الوقائع والحقائق و«وضع وجه أي شخص» في أي مشهدٍ ولو كان إجرامياً. وفي إطارٍ قانوني، بدأ يظهر بقوة تعبير «الأبوة البشرية للمصنّفات» الذي تحوّل إلى قانون في الولايات المتحدة الأميركية. القانون ينصّ على أن «ينسب الفضل والأبوّة لمنتج صُنع بالذكاء الاصطناعي ولكن وراءه شخصٌ بشري». لكن الموضوع لم يدخل حيّز التطبيق القانوني حتى اللحظة، ولم تُرفع أي قضية على أي مصنّف أُنتج بالذكاء الاصطناعي. فلسفياً، تقارب فكرة «الإنتاج عبر الذكاء الاصطناعي» نظرية فلسفية تدعى Uncanny valley، التي تطرح أحد أهم التساؤلات حول ماهية الحقيقة من الخيال. مثلاً هل يجب أن يقترب «الواقع المخلّق» من الحقيقة إلى هذا الحد؟ أم أنه على «المخلّق/ الهجين» أن يبقى ظاهراً كي لا يتشبّه تماماً بالأصل؟ وهل يحدث هذا الشيء نوعاً من الرعب نظراً إلى قربه المدهش من الواقع كما يحدث في ألعاب الفيديو الحديثة مثل Resident Evil وسواها حيث الشخصيات هي «نسخ» واقعية لا يمكن تمييزها عن الأصل؟ هل هذا «صواب أخلاقياً»؟ أم أنه من الأفضل أن يبقى هناك «هامشٌ» بين المتخيّل المصنوع والواقعي الأصلي؟