«جبنا للولد بيانو»، وتفضلوا نسمع سويّاً ماذا صنع به. يأخذنا فرج سليمان (1984) من أيدينا ويلفّ بنا في شوارع فلسطين، يدعونا إلى زيارة بيوتها ويحكي عن حقبة زمنية مرّت على أحيائنا التي غابت عن ناظرنا، ففلت منّا شكلها المألوف. يتحدّى الملحن والموسيقي والمؤدّي الفلسطيني الشاب نفسه ويقدّم لنا ألبوماً مختلفاً عمّا سمعناه في «أحلى من برلين». هنا، يذهب نحو إيقاع شرقي في كثير من أغنياته، فلليرغول الفلسطيني حضور قوي في أغنيتي «قصتنا» و«نشيد عربسرائيل»، وللدربكة والمجوز دورهما في أكثر من تراك. يوسّع سليمان مساحة عرض ألحانه، فنجد تنوّعاً كبيراً في جوقة الآلات الموسيقية المعتمدة في الألبوم وترفاً لم يكن حاضراً في ألبوميه السابقين، وتزهّداً يقتصر على البيانو وحده في ثلاث تراكات تشكّل جزءاً مهمّاً من وجه الألبوم الرومانسي، بالإضافة إلى «تهليلة فهيم» التي سجّلها ونشرها على «أيفون 4» لتكون دعوةً تامّة للعفوية و«الأهلية بمحلية»! من ناحية الأداء، نلحظ انسجاماً أكبر بين الكلمة واللحن وصوت المؤدّي، فهو دافئ مرّةً كما في «بخطرلي أشتقلك»، ولئيم مرّات كما في تمنياته ألّا يسمع أحد أغنيات فريدي ميركوري وأن تقع ملكة بريطانيا عن حصانها و«تتطبّش» في أغنية «الملكة».
يستعدّ فرج سليمان لعروض عدة في أكثر من بلد سيعلن عنها قريباً

بما أن الحديث وصل بنا إلى «الملكة»، فلا بدّ من تأمّل هذا العمل الجريء في مدّته (ثلاث عشرة دقيقة)، كما في شكل موسيقاه المتنوّع على طول التراك ليتناسب مع نبض القصّة المسرودة، فيتكاسل معها في حديث هادئ بين الأب وابنه في بارٍ ما، ويخرج مندفعاً في فورة مشاعر ابنٍ قد انتبه للتّو إلى كميّة الحقد المحقّ الذي ورثه عن أبيه على العائلة الملكية والثقافة البريطانية، ويرسل صلاة عميقة إلى ربّ الأكوان بين هذا وذاك. وكان لا بدّ لسرد حيويّ كهذا من أسلوب الرابسودي الحرّ في اللحن، لتأخذ كل كلمة حقها من الموسيقى التعبيرية وتصل أذن المستمع بشكلها الكامل. على قدر وقاحة الاستعمار البريطاني وتبعاته على الشعب الفلسطيني، نُسجت أغنية «الملكة» بأدق تفاصيلها لتحكي لنا مشهداً عائلياً صغيراً يصوّر احتداماً بين الأبوين على أثر وفاة الأميرة ديانا وتطوره على مر السنين مع الشاب الذي يلعن في نهاية القصة أغلب الرموز البريطانية المنتشرة عالمياً. تأتي السخرية واضحة في أغنية تتهكّم على «البيتلز» و«الكوين» وديفيد بوي في حين أنّ لحنها متأثّر بالروك البريطاني، كما في عباراتها العارية مثل «نطلب راس آرثر بلفور وتاتشر ستّ الحديد تقوم من قبرا وندفنها من جديد…». وقد وظّف الكاتب والشاعر مجد كيّال الكثير من الرموز السياسية كما الكثير من اللحظات العائلية الحميمة كي تلامس الأغنية بصدق كلّ أسرة فلسطينية، فتبعات الاستعمار قد دخلت في كل صغيرة وكبيرة في حياتها.
اليرغول الفلسطيني حضور قوي في أغنيتي «قصتنا» و«نشيد عربسرائيل»


هذا التعاون الناجح بين الموسيقي فرج سليمان والكاتب مجد كيال الذي أنتج لنا ألبوم «أحلى من برلين» يتكرّر في ألبوم «جبنا للولد بيانو» الذي يقدّم لنا صورة مكثّفة مثقلة بتفاصيل حياتنا التي قد نظنها متفرّدة في حين أن لغة المشاعر التي يجيد مجد كيال تفكيكها ببراعة، تدلّ على حقيقة القصة الواحدة بعمقها وسطحيّتها. لمجد قدرة هائلة على بناء صور شعرية مختلفة تلمس بعمق إحساس المستمع وعبقرية سلسة في أسلوب زج أسماء الشوارع والمدن واللهجة الفلسطينية التي نتعرف عليها من خلال كلماته المتناسقة المغنّاة بصوت فرج كأنهما يدعواننا إلى نزهة واعية في شوارع حُرمنا منها قبل أن نولد. نجد في الألبوم، الحب بشكله البريء (لو بقدر) وبألمه المتواصل («بخطرلي أشتقلك» و«يمكن بدوّر عالوجع») وبجانبه الناقص والمتردد (بتعرف شو فكرت) كما نجد تهكّماً سياسيّاً وتفصيلاً اجتماعيّاً لحياة الناس في مواضع عديدة كما في أغنية «قصتنا» التي تختصر شكل مجتمعنا بتناقضاته اللامتناهية، وهي بلحنها المتكرر تشبه أغنية «العيشة صعبة» لزياد الرحباني، لناحية التقارب الفولكلوري لا أكثر. ومع أن فرج قد أشار في إحدى مقابلاته إلى تأثره بالرحباني، إلا أن أسلوبه مختلف تماماً وفقاً للموسيقي ماهر بجور الذي يرى أنّه على الرغم من تأثر الإثنين بالموسيقى الكلاسيكية مثل باخ وموزار، فإن أعمال زياد الجازية وتأثره بموسيقى الجاز أقل مما يعتقده جمهوره، فلزياد موسيقى كلاسيكية كما موسيقى متأثرة بالموسيقى الكوبية والبرازيلية كالسامبا والبوسا نوفا، في حين أن موسيقى فرج هي جاز صريح ممزوج بالروك البريطاني كدرجة أولى. أما من الناحية الشعرية، فإن الأغنيات التي كتبها زياد بنفسه، واقعية في مقابل أغنيات فرج المليئة بالتشبيهات والصور المجازية والمكتوبة من شعراء وكتاب. لعلّ أغنيات سليمان تشي بتأثرها بأعمال الرحباني، بسبب عفويّتها وواقعيتها وقربها من المشاعر الإنسانية اليومية.
هذا الصيف، يستعدّ فرج سليمان لعروض عدة في أكثر من بلد سيعلن عنها قريباً عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، نأمل أن يكون لبيروت نصيب منها.