عاد اسم أحد أشهر أصوات البرازيل النسائية أسترود جيلبرتو (1940 ــ 2023) إلى التداول بكثرة في الأيام الماضية، على إثر إعلان حفيدتها عن وفاتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دون إعطاء التفاصيل حول الأسباب، ومكتفية بتأكيد خبر رحيل «الفتاة الحقيقية التي نقلت البوسا نوفا من إيبانيما إلى العالم». يكاد صوت أسترود جيلبيرتو يكون الأكثر شهرة بين الأصوات البرازيلية في العالم، طبعاً بفضل أغنية «فتاة إيبانيما» التي أسهم أداؤها فيها إلى انتشارها حتى بيعت منها ملايين النسخ في العالم وحازت جائزة «غرامي» كأفضل أغنية. وخلف هذه الأغنية قصة. فتاة في الـ17 ألهمت موسيقيّي البوسا نوفا فينيسيوس دي مورايس وأنطونيو كارلوس جوبيم في مطلع ستينيات القرن المنصرم، فكانت أغنية «غاروتا دي إيبانيما» بعنوانها الأصلي، التي يصفان فيها جسد الفتاة ومشيتها حين كانت تمرّ يومياً أمام إحدى حانات حيّ إيبانيما في ريو دي جانيرو.

خلال مهرجان للجاز في لاهاي عام 1982 (بي ستوك ـــ أ ف ب)

لكن الأغنية لم تحلّق إلا بعدما قرر الموسيقي البرازيلي جواو جيلبيرتو تسجيلها خلال تواجده في الولايات المتحدة بنسختها المعروفة اليوم برفقة عازف الساكسوفون ستان غيتز. طلب من زوجته التي كانت تجيد لغات عدة أداء مقطع باللغة الإنكليزية في حين لم تكن مغنية محترفة. وبرغم النجاح الهائل الذي حققته عالمياً، لم يرد اسم أسترود في النسخة الأولى للألبوم ولم تحصل إلا على 120 دولاراً لمشاركتها فيه. لكن هذا التفصيل لم يكن مهماً نظراً إلى ما كان ينتظر الفنانة من مشاريع ونجاحات في المستقبل، كل ذلك بفضل انطلاقتها هذه. ففي عام 1964، صدرت نسخة لـ«فتاة إيبانيما» أُزيلت منها المقاطع المغناة باللغة البرتغالية وتمّ الاحتفاظ بالمقطع الإنكليزي بصوت أسترود وبيعت منها الملايين. أما ألبومها الأول الذي حمل اسمها، من أصل 19 عملاً ستصدرها تباعاً، فجاء في العام التالي بعدما كانت انتقلت نهائياً للعيش في الولايات المتحدة. في بداياتها، أدّت مقطوعات تنتمي إلى الـ«بوسا نوفا» والجاز الأميركي قبل أن تبدأ بإصدار أغنياتها الخاصة.
ولدت في البرازيل من أم برازيلية وأب ألماني وأتقنت لغات عدة أدّت فيها أغنياتها لاحقاً. لم تكن تمنح الكثير من المقابلات الصحافية، خصوصاً بعد اعتزالها. ضمن حديث مع «نيويورك تايمز» في مطلع الثمانينيات، عادت إلى بداياتها في الموسيقى وتذكرت غوصها في عالم الموسيقى مع مجموعة من الشباب تعرّفت من خلالهم إلى جواو جيلبيرتو، زوجها المستقبلي، والرائد في الـ«بوسا نوفا»، هذا النمط التي كانت من أبرز المساهمين في شعبيته وانتشاره خارج البرازيل. وأخبرت أنها كانت تغني في المنزل معه كما تشاركه بعض الحفلات الموسيقية كضيف خاص. عن الجاز وأسلوبها في الغناء، قالت آنذاك: «ماذا يعني مغني جاز؟ شخص يرتجل؟ أنا لا افعل ذلك. أفضّل البساطة. قيل لي إنّ طريقة أدائي متأثرة بالجاز. أول ألبوماتي كان مع ستان غيتز كما أنجزت ألبوماً مع جيل إفنز. من هنا تأتي فكرة الجاز.
عانت كثيراً من الذكورية في عالم الموسيقى

لكنني لست فعلاً مغنية جاز». في السنوات اللاحقة، تحددت هوية أسترود جيلبيرتو الموسيقية أكثر حين ثبّتت خطواتها في نمط الـ«بوسا نوفا» (يعني باللغة البرتغالية الموجة الجديدة)، وهو مزيج بين الموسيقى البرازيلية وإيقاعاتها والجاز الاميركي. في «غيتز جيلبيرتو»، أحد أكثر الألبومات مبيعاً في العالم، سرقت أسترود الأضواء من الموسيقيين بصوتها الدافئ والجميل في أغنيتَي «فتاة إيبانيما» و«كوركوفادو». لكن مسيرتها لا تقتصر على هاتين القطعتين، فكانت لها أغنيات أخرى معروفة على غرار «أغوا دي بيبير» (1965) و«تريستيسا» (1967) من دون أن ننسى نسختها الخاصة لأغنية «فلاي مي تو ذا مون» (1965). بعد مرحلة شحّ استمرت 20 عاماً عادت في تسعينيات القرن المنصرم إلى الساحة وأصدرت أعمالاً جديدة، لعل أبرزها دويتو مع جورج مايكل حمل عنوان «ديسافينادو». وتعاونت مع ولديها كذلك في المرحلة ذاتها في أعمال عدة. كانت هناك بساطة في صوتها وطريقة أدائها من دون امتلاكها إمكانات تقنية هائلة، ونوع من الحميمية جعلته جذاباً ومريحاً للأذن.
عانت أسترود كثيراً من الذكورية في عالم الموسيقى كما كشف ابنها قبل مدة في إحدى الصحف، وحاول عدد من الأشخاص سرقة نجاح أغنية «إيبانيما» منها، خصوصاً غيتز الذي اعتبر أنها بفضله أصبحت مغنية لا ربة منزل. وقد يكون لهذا السبب، فضّلت الاعتزال عام 2002 وتركيز أنشطتها على الدفاع عن الحيوانات، قبل أن تغادرنا عن عمر الـ83 بهدوء في منزلها الأميركي في فيلاديلفيا.