القدس المحتلة | متشعبة هي سيرة سميح القاسم. تشبه شجرة تين تضرب جذورها في بلاد الشام، غير مبالية بالخرائط والحدود المصطنعة. تنبسط ذاكرتها بين عين الأسد وشفا عمرو وحاصبيا ودمشق ونجران. اقتلاع وترحال من أيّام «السَّفر برلك» إلى كارثة فلسطين. في سيرته «إنها مجرّد منفضة»، يمزج القاسم تاريخه الشخصي بتاريخ عائلته، ويستعيد ولادته في الزرقاء الأُردنية عام 1939. وعودة عائلته إلى بلدة الرامة إبّان الحرب العالمية الثانية. يومذاك، كان التعتيم مفروضاً على القطار العائد إلى فلسطين، خوفاً من الغارات التي قد تشنّها الطائرات الألمانية. يحكي القاسم بسخرية أن محاولة اغتياله الأولى كانت في ذلك القطار، حين حاول أحد الركّاب قتله حتى يُسكت بكاءه وصراخه. خاف الرجل أن تسمع طائرات النازيين بكاء الشاعر الطفل، فتقصف القطار! بعد «محاولة الاغتيال» هذه، سيجرّب القاسم صوته في جوقة الإنشاد المدرسية في «دير اللاتين» في الرامة، وينشد مع زملائه أناشيد «موطني» و«بلاد العرب أوطاني»، و«يا ظلام السجن خيّم».

تجارب أولى على الإلقاء، يشحذ بها صوته الذي ظهر في مجموعته الأولى «مواكب الشمس» التي صدرت عام 1958. في ذلك العام، اعتُقل للمرة الأولى تحت الحكم العسكري الإسرائيلي. كان نازيون جدد قد سمعوا صوته وأصوات شعراء ومثقفين فلسطينيين أمثال محمود درويش وتوفيق زياد وإميل حبيبي وإميل توما؛ رفضوا الخضوع للحكم العسكري. يحكي القاسم بحميمية آسرة لحظة اكتشافه «شاعراً في الصف» و«الدرس الأوّل» في النقد الأدبي من أُستاذ اللغة العربية: «لا تذهب إلى القصيدة يا بُني، دعها هي تأتي إليك، وستأتي... لا تقلق». في «دير اللاتين» القائمة في بناء روسي قديم، سيحقق القاسم أيضاً «شعبية» مرموقة بين الفتيات القليلات في المدرسة، حيث لمع نجمه في الفرقة المسرحية.
كان في التاسعة من عمره حين وقعت كارثة فلسطين، وحين صاروا ينادونه «يا شاب!». يستمع إلى الحوارات التي كانت تدور بين الرجال في ديوان بيتهم. أسماء غريبة تتقافز مثل الجنادب: «ابن غريون وموسى شرتوك وموسى ديان». يستمع إلى الأحكام المطلقة عن «الزعامة العربية التي باعت القضية»، وعن أن «المسألة مَبيُوعة». أحكام تعبّر عن أسى ومرارة، لكنّ شبحها يُخيّم على الواقع السياسي العربي. سيرحل القاسم وإسرائيل ماضية في ذبح غزة وفلسطين، وسلالات النفط والغاز تتحالف معها، والشارع العربي ينتفض على الفايسبوك وتويتر ويصمت في الشارع.
ستبقى سيرة القاسم كوّة نطلُّ منها على الذاكرة الفلسطينية بآمالها وانكساراتها وتناقضاتها. تجربته مع رفاق آخرين في «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» الذي خرج منه بعد ملابسات اتهامه بـ«الشوفينية القومية»، ما زالت موضع جدل ونقاش لن ينتهي إلا بتحرير فلسطين وطوي صفحة الكارثة واستعادة الذاكرة. في السنوات الأخيرة، أخذ عليه كثيرون صداقته مع رجالات السلطة الفلسطينية التي صارت نسخة مقلّدة عن «الزعامة العربية» التي باعت يوماً فلسطين، ومشاركته في فعاليات ثقافية نظّمتها جهات إسرائيلية. رغم هذا، سنتذكر قصائده التي كانت زادنا في لحظات تاريخية، مثل قصيدته الأبرز «تقدّموا.. تقدّموا»، وعنوانها الأصلي «رسالة إلى غزاةٍ لا يقرأون». قصيدة استهلمها من أطفال القدس المحتلة في انتفاضة عام 1987. رآهم القاسم يصرخون على الجنود الصهاينة بالعبرية «كديما.. كديما (تقدّموا.. تقدّموا) يا أولاد الكلب.. كديما».. فجاءت قصيدة مفخخة بعنفوان أطفال الحجارة وروحهم القتالية إلى الأبد.