خالد المعالي *مع سعدي يوسف اتخذ الشعر العربي الثوب المحلي، الثوب الشفيف للواقع بتفاصيله كلها، حيث تبين فيه الأشكال الصغيرة وتُسمع الأصوات الخفيضة. كما تلاشت تلك البلاغة الثقيلة التي كانت لأعوام طويلة، وربما ما زالت، تمنع الشعر العربي من التماس مع الواقع. سعدي يوسف شاعر التفاصيل الصغيرة بامتياز. بهذا المعنى، فهو شاعر بنّاء، كلُّ ما في قصيدته رأته عيناه وتحسستهُ يداهُ. وقد قُدّر له أن يسيرَ من تلك القرية «حمدان»، منذ أعوام طويلة، تجاوزت الستين عاماً ربما، إلى مدن كثيرة وأن يُمسك الحصاة في قاع النهر، وأن يشمّ الزهرة الصفراء في «تيبازا»، وأن يرقب «القنفذ في حبوته».

اليوم وأنا أستعيد أعماله الشعرية في طبعتها الجديدة، التي ربما كنت طالعتُ بعضها قصيدة قصيدة في السبعينيات وفي ما بعد بأشكال مختلفة ومتفرقة، كأنها وطن بديل، خريطة لعالم وهمي استطعت مواصلة العيش بفضله.
آنذاك لم أتمالك نفسي حين كنت مع عبد اللطيف اللعبي في برلين قبل أعوام خلت، حتى قرأت له عن ظهر قلب قصيدة «عن الأخضر أيضاً» أمام دهشة الزميل الألماني... وأن أسير بعد أعوام في طرق المغرب وأنا أقرأ يافطات الطريق وأسماء المدن التي أعرفها من قصائد سعدي يوسف، أو في الجزائر العاصمة كأني كنتُ فيها والأبيات ترد على لساني: «تيبازا، آه تيبازا! ».
كم يحتاج المرء من الشعر حتى تكون حياته كأنها بُنيت عليه أو من أدواته؟ لكل شاعر دليلٌ في خيالي، دليلُ حياة ودليلُ أوهام مُنجية من المضائق والمطبات. ليست بمعنى الطلاسم - وإن كانت هنا كأنها كذلك من بعيد - فالقصيدة ليست عكازاً، بل هي جناح، ينمو في اللحظة المناسبة، ويرتفع بنا، كأننا في الأحلام نطير. القصيدة كأنها سيرة، أو جزء يسير من سيرة، وعند سعدي يوسف هي المشهد الحاضر، حسبما يراه مع مشهد مُستعاد.

القصيدة كأنها سيرة، أو جزء يسير
من سيرة، وعند سعدي هي المشهد الحاضر، حسبما يراه مع مشهد مُستعاد


شاعر التفاصيل الصغيرة بامتياز.
بهذا المعنى، فهو شاعر بنّاء، كلُّ ما في قصيدته رأته عيناه وتحسستهُ يداهُ

لا توهّم هنا أبداً، إلا توهم الحياة، الحياة التي تضج أو تبدو طبيعة صامتة ولكنها ملأى كأي طبيعة حية، حيث ينبض الصخرُ والحجرُ بالحياة وترنّ الأصداء مالئة سمعنا.
في مقدمته للجزء الأول من أعماله الشعرية، يتذكر الشاعر القبض عليه: «أُخذت من المنزل، إلى مركز الشرطة، وبعد ليالٍ هناك، ذهب بي شرطي، وأنا مغلول، إلى محطة القطار، القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد حيث سأحاكم.
كنا راجليْن، أنا والشرطي، والطريقُ بين مركز الشرطة ومحطة القطار يمرّ بكل الأماكن التي أعرفها، ويعرفني الناسُ فيها: السوق، المقاهي، المكتبة، كان الناس يضطربون مضطربهم اليومي... وأنا أسيرُ بينهم مغلولاً. لم يقل لي أحد: سلاماً، لم تطرف لمرآي عينان، كان الناس مشغولين بشؤونهم، وما أنا من هذه الشؤون، يا لوحشة المسعى!». هنا يتبين مصير الشاعر ووحدته، فهو على طريق قلّ سالكوها، إنها الطريق الموحشة.
شاء قدري أن أكون من قرية ناشئة، وآخر قرية عند تخوم الصحراء، والطريقُ من المدينة إلى السجن الصحراوي «نقرة السلمان» تمرّ بها، كنتُ أرقب في الصغر سيارات السجن الخضراء وهي تروح غادية من المدينة إلى السجن وبالعكس، حيث هناك أمضى الشاعر أيامه سجيناً... وفيما بعد منذ عام 2009 وأنا ألتزم زيارة خرابة السجن... أجلس متأملاً ردهات السجن المتهاوية... فيما ابني الشاب يلهو بخراطيش الطلقات الصدئة وبقايا حديد المدافع.
* شاعر عراقي وناشر «الجمل»