في «القصبة تهتزّ» (2013) تروي المخرجة المغربية ليلى المراكشي (1975) قصة عائلة مغربية بورجوازية تجتمع بعد موت الأب، فتتفجر النزاعات العائلية وتكشف الأسرار القديمة، وتسعى كل واحدة من نساء العائلة للتحرر من شبح الأب المسيطر. الفيلم يبدأ بمشهد للممثل المصري عمر الشريف في دور شبح الأب المتوفي وهو يتحدث عن السينما قديماً حيث كان الراوي يقص الفيلم للمشاهدين قبل بدئه ثم يختتم بعبارة طريفة وذكية: «كانوا يراعون مشاعر المشاهدين في ما مضى».
يعبر هذا المشهد عن خصوصية في السرد السينمائي، لا نراها لاحقاً إلا في لقطات نادرة. في ما تبقى، يتخذ الشريط منحى أكثر كلاسيكية في السرد.
تعود الابنة المتمردة صوفيا (الممثلة المغربية مرجانة العلوي) التي تعمل كممثلة في أميركا برفقة ابنها من نيويورك. تلتقي بأختيها كنزا (الممثلة المغربية لبنى الزبال) التي تعمل كمعلمة وهي الأكثر تزمتاً وقرباً من أبيها الراحل، ومريم (الممثلة والمخرجة اللبنانية نادين لبكي) الغارقة في ضجرها وإحساسها بالفشل، المدمنة على الكحول والعمليات التجميلية في آن معاً، بالإضافة إلى الأم عائشة (الممثلة الفلسطينية هيام عباس) التي لما تزل خاضعة لسلطة الأب حتى من بعد موته، ومربية المنزل ياقوت (الممثلة راوية) والعلاقة المتوترة الغامضة بينهما التي قد توحي بالمثلية الجنسية في مشاهد البداية إلى أن يتضح أنهما ليستا على علاقة، بل في الحقيقة تتشاركان العلاقة نفسها مع ذات الشخص.

لغة سينمائية
ذات جمالية خاصة وأداء تمثيلي متماسك ومقنع


قد تذكر هذه الحبكة الروائية بمسرحية «أوغست: مقاطعة أوساج» لترايسي لتس الحائزة جائزة «بوليتزر» والفيلم المقتبس عنها الذي صدر عام 2013 من إخراج جون ويلز وبطولة جوليا روبرتس وميريل ستريب. كذلك، قد يذكّر جزئياً أيضاً بفيلم «مي في صيف» الذي صدر أيضاً في السنة نفسها (2013) للمخرجة الفلسطينية الاميركية شيرين دعيبس، إذ نرى تجتمع الابنة العائدة من أميركا تجتمع بأمها وأخواتها في عمان، حيث تمثل هيام عباس أيضاً دور الأم في الفيلمين. ولو أنّ الشخصيتين مختلفتان، إلا أنّ التفاعل أو التصادم بين الشرق والغرب نراهما حاضرين في الفيلمين ولو أنهما في «القصبة تهتزّ» ليسا ثيمة أساسية كما في «مي في الصيف» لكنهما يتجسدان أكثر عبر أسلوب السرد السينمائي الذي كأنما يحاول دمج هذين العالمين المختلفين من دون أن ينجح تماماً في ذلك.
يتمثل ذلك عبر الشريط الصوتي للشريط مثلاً الذي يضج بالأغاني الأميركية التي لا تتوافق مع السرد السينمائي في مشاهد معينة، بل تبدو كأنها من فيلم آخر، أو عبر النهاية السعيدة المبسطة والمفاجئة التي لا تتوافق مع ما تبقى من أحداث درامية. في الوقت عينه، فالكثير من الحوارات في الفيلم تعبر بطريقة كوميدية عن هذا التصادم بين الثقافتين كالسخرية من صوفيا التي لا تمثل سوى دور الإرهابية في الأفلام الأميركية. الدور المثالي لامرأة عربية كما تعلق أختها مريم التي تنصحها بأن تمثل في أفلام الرعب التي يخرجها زوجها الأميركي، فلا شيء مرعب أكثر من الزومبي إلا العرب. ما يشير إلى أن المخرجة تقصد طرح هذه الثيمة وربما تجسيدها عبر هذا التناقض في الأساليب السينمائية التي تعتمدها ولو أنها تحمل رؤية مزودجة في الفيلم. لكن من ناحية أخرى، فالتناقض نفسه الذي نراه في بناء الشخصيات والمواقف يثريها ويخرج بها عن التقليدية كالتفاعل بين صوفيا وأختيها وأحاديثهن الطريفة عن الحياة الحميمة والجنس كما في مشهد السوبرماركت، أو في بناء شخصيتي مريم وصوفيا اللتين لا تحملان المواصفات التقليدية للبطلة الأنثى كما نراها على الشاشة.
كل ذلك يقدم بورتريه أكثر واقعية يخرج عن الكليشيه عن المجتمع المغربي أو أي مجتمع عربي اليوم. بالإضافة إلى ذلك، تبني المخرجة شبكة علاقات معقدة بين الشخصيات تغني الحبكة الروائية كعلاقة صوفيا بأختها الميتة ليلى التي كأنما تقمصت شخصيتها بعد انتحارها، فأصبحت ممثلة لأنّ ليلى كانت تحلم بذلك وحتى تتقرب من زكريا (الممثل التونسي الفرنسي عادل بنشريف) حبيب ليلى السابق. كأنما تريد أن تستكمل حياة أختها حيث توقفت بعد انتحارها، وزكريا يشاركها في تبادل الأدوار والأزمان. وتبدو هذه الصراعات التي تطرحها المخرجة على الهامش ولا تتبناها في تطويرها للحبكة الروائية أكثر استثنائية من الصراع الأساسي الذي يتجلى عبر الحقيقة الرهيبة التي تكشفها لنا في النهاية هي أن زكريا وليلى هما أخ وأخت من غير علمهما وعلاقة الحب الرومانسية التي نشأت بينهما هي سفاح قربى، والمربية ياقوت لم تكن سوى عشيقة الزوج.
ليست المشكلة في ثيمة سفاح القربى، بل بالأسلوب المبسط التي تعتمده المخرجة في طرحها وردة فعل الشخصيات تجاهه، ما لا يتناسب مع قسوة الحدث وثقله الدرامي. من مشهد اكتشاف الحقيقة، ننتقل بعدها إلى صورة للعائلة مجتمعة وهي تشاهد شرائط الفيديو بسعادة، ما يجسد حالة أشبه بالفصام. بين التراجيدي والكوميدي وبين الدرامي المعبر وبين ما هو أكثر خفة ويخلو من العمق. تتأرجح المخرجة في سردها لكن ما يحافظ على سلاسة السرد هو اللغة السينمائية التي تتمتع بجمالية خاصة في بعض المقاطع كما على سبيل المثال مشهد صوفيا وهي تراقب زكريا يقبل زوجته في الحانة بينما تبدو أقل خصوصية في مشاهد أخرى. لكنّها تبقى متناغمة في إيقاعها، وكذلك الحوارات التي لا تخلو من الطرافة الذكية. ما يضيف إلى الفيلم هو الأداء المقنع والمتماسك للممثلة مرجانة العلوي في دور صوفيا، كذلك نادين لبكي في دور مريم، إضافة إلى الأداء اللافت للممثلة راوية في دور ياقوت وتفاعلها مع الممثلة هيام عباس في دور الأم. ولا ننس قوة حضور عمر الشريف في أدائه لدور شبح الأب الميت الذي يحوم حول البيت ويضيف بعداً مختلفاً للشريط ولو أنّه يبدو كأنه آت من فيلم آخر ولا يمت بصلة لشخصية الأب المتوفي الديكتاتوري كما تصفه شخصيات الفيلم.



Rock the Casbah: بدءاً من الرابع من أيلول (سبتمبر) ــ صالات «أمبير» (1269)، «غراند سينما» (01/209109)