رام الله | في معرضه «اللامكان» (2014)، يشتغل التشكيلي الفلسطيني بشار الحروب (1978) على تجربة اللجوء والرحيل واللاوطن. لوحاته التي تحتضنها «غاليري 1» في رام الله، تستعيد طزاجة سؤال الشتات في توليفة لونية تراهن على اللمسة الفانتاستيكية (الغرائبية) والذكاء البصري في خلق فضاءات مدهشة.
اختياراته اللونيّة تنهض على قراءة عميقة للمفاهيم التي تتكسّر في مساحة لوحته (لون ذهبي ورصاص واكريليك أبيض على قماش ــ 120 × 90). لا تخلو هذه القراءة من تجربة الفنان ذاته التي مسّها الشتات واللاوطن. لوحاته التي استلهمها من صور أطفال سوريا اللاجئين في مخيم «الزعتري»، ترمي إلى تخليص صور اللاجئين من بكائية التقارير الإخبارية ونفعية الإعلانات الخيرية التي تتجاهل مسؤولية السياسة في خلق اللجوء. لكن لوحته المشحونة بمخيلةٍ جمالية وظرافة وسخرية، تزلزل طبقات أعمق لتطاول البوستر السياسي والكاريكاتور، الذي وظّف لسنواتٍ صور الأطفال كأداة كلاسيكية لكسب التأييد والتعاطف والمال الخيري.
يرسم الأطفال بالرصاصي، أرخص المعادن وأقلّها قيمة
خيار بشار الفني في القبض على جوهر اللجوء والمخيم، حرّر لوحته من الشرح والوصف والتبرير، لتكتفي بالأبيض والذهبي والرصاصي في تقديم مشروع جمالي يقول لنا الكثير بالقليل من المفردات الفنية. نشاهد هذا في المساحة البيضاء التي تبتلع الأطفال اللاجئين وأشياءهم الهشّة، كما ابتلع الثلج أطفال مخيم «الزعتري» في شتاء 2013. وإن كان الثلج يوحي بالسكينة والفرح وصوت فيروز الدافئ، إلا أن البياض في لوحة بشار يحيلنا على حالة من الحصار والموت والضياع. تحت القشرة البيضاء الخادعة، يختفي فضاء المخيم الضيّق وهندسته العنيفة، التي تهدف إلى سحق إنسانيّة ساكنيه وتثبيتهم «وحيدين في البياض». كما أن هذه القشرة البيضاء هي غشاوة تظللّ عيون مشاهدي التقارير الإعلامية والإعلانات الخيرية، وتحجبهم عن واقع المخيم واللجوء. هذه الخلخلة المفاهيمية تتجلّى أيضاً في اللون الذهبي. يشتغل بشار على بهدلة هذا الذهب والحط من قيمته، حين يرسم حماراً و»طشت» وكرتونة وطوبة ولحافاً وحاويتيّ قمامة وصندلاً من الذهب. وفي حين تكتسي الأشياء الهامشية بلون ذهبي، يرسم بشار الأطفال بالرصاصي، أرخص المعادن وأقلّها قيمة. ويتبادل الأطفال الذين يتكوّنون في رحم اللوحة اللعب والمرح والسخرية مع أشيّائهم الهشّة، ولا يخلو هذا من فانتاستيكية آسرة تقلب الأدوار وتقشع الغشاوة عن جوهر الشتات. ليس الأطفال قليلي القيمة مثل الرصاص، وليس الحمار أو الصندل الذهبي أغلى منهم. لكن لوحة بشار لا تدور تحت المظلّة المفاهيمية فقط. ربما هذا ما تخلقه قراءة معرض «اللامكان» الذي لا يخلو من حرقة ولوعة المُشتتين في الأرض التي يسكبها الفنان بجرعات محسوبة في لوحته. هناك فرادة في رسم الأطفال اللاجئين. رغم حرقة اللجوء وعدم الرجوع إلى البيت الذي دُمرّ أو احتُلّ، تحتفي اللوحة بالجمالية والحياة والفعل، وإن كانت للوهلة الأُولى تشحننا بتشاؤلية، هي زاد اللاجئ في هذا الزمن الإمبريالي كي يحتال على واقعه.
هكذا سنشاهد طفلاً لاهياً يتمرجح بين حاويتي القمامة الذهبية، وآخر يركب الحمار الذهبي. وسنشاهد في المقابل طفلاً يستحم في طشت أو يلفُّ نفسه بلحافٍ مهترئ، أو يتخذ من كرتونة طاقية أو يرتدي صندلاً في زمهرير بياض الثلج والضياع. طفل مسحوق داخل كرتونة، لعلّها البيت السحري الذي يتمناه. هؤلاء الأطفال يمارسون فعل الحياة رغم أنهم ما زالوا اسكتشات مرسومة بالرصاصي ولم يكتمل تكوينهم بعد، ورغم أنهم محاصرون بكل هذا البياض. ما زالوا يحاولون شق الصخرة كي يخرجوا من باطنها، كما نشاهد في إحدى اللوحات. كما أنهم لا يصلحون لأي تقارير إعلامية وإعلانات خيرية، لأن لاوعيهم يمارس فعل الخلق يومياً، غير مكترث بضآلتهم داخل اللوحة. إنهم يكسرون برواز اللوحة الذهبي، ويكسرون صورهم النمطية ورمزيتهم وأيقونيّتهم. إن خنقهم وحصارهم بالبياض يتساوى مع خنقهم بالذهب وبالصور المثالية التي تتناقلها الميديا. هذا ما نشاهده في لوحة يرفع فيها الأطفال شارة النصر، وهم محاصرون باللون الذهبي. إن قوة الذهب في لوحة بشار تستحيلُ ضعفاً أمام هشاشة «اللامكان»، وهشاشة المخيم المتهالك.
يحيلنا معرض «اللامكان» على أي «مكان» تُقام فيه مخيمات اللجوء في سوريا والعراق ولبنان كما في هايتي وكمبوديا وأفغانستان. تعصى لوحات المعرض على التحديد المكاني، وإن كانت تتخذ «الزعتري» نقطة بدء. وبالطبع، لا يمكن إغفال تجربة الشتات الفلسطيني في هذا المشروع الذي يوظّف أبرز عناصرها من اليومي والعادي والهامشي، وكل ما يتساقط من طاولة الميديا والسياسة المحتشدة بالصور الباردة. لا يوجد فلسطيني لم تطاوله تجربة الشتات والمخيم، بأبعادها المادية والنفسية. بشار الحروب الذي ولد في القدس صادرت «إسرائيل» 100 دونم من أرض جده في بلدة خاراس (شمال غربي الخليل) التي احتُلَّت عام 1948. جدّه رفض «كرت الوكالة» (الأونروا). ويمكننا أن نقرأ في فعل جده وعياً بالمأزق المصيري الذي وجد فيه الشعب الفلسطيني نفسه عام 1948.

«اللامكان» حتى 16 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «غاليري 1» (رام الله).
www.galleryone.ps





عن العنصرية

بشار الذي يعيش حالياً في رام الله يرى «أن قضية اللاجئين ليست أكلاً ونوماً». يقول: «تحوّل المخيم اليوم إلى مكان للجريمة، وفي حالتنا الفلسطينية، فالاحتلال هو السبب الرئيسي. لكن هذا لا يعني تجاهل العنصرية تجاه ساكنيّ المخيم». المفارقة أن العنصرية هذه توجّه من فلسطينيين لفلسطينيين يتشاركون تجربة اللجوء ذاتها.