فازتْ ليدي سالفير (1948)، إذن، بجائزة «غونكور» لسنة 2014 عن روايتها «لا بكاء» (منشورات سوي) بخمسة أصوات، فيما حصل الجزائريّ كمال داود على أربعة عن روايته «مورسو، تحقيق مُضادّ». آخِرُ امرأة فازتْ بجائزة «غونكور» قبل سالْفير كانت الكاتبة السنغاليّة الأصل، الفرنسيّة الجنسيّة، ماري ندِياي (في 2009). إثر فوزها بدقائق، قالت ليدي سالفير بفرح بالغ: «كان للكتب التي كتبتُ حتّى الآن عددٌ من المُتَلَقِّين محدودٌ، أمّا الآن، فسيكبر هذا العدد. إنّها لسعادة كبيرة». لقد استقتْ الكاتبة عنوان روايتها من مُسَوَّدَة رسالةٍ كانت الشّاعرة الرّوسيّة مارينا تسفيتاييفا تنوي إرسالها إلى بوريس باسترناك، وفيها تتشكّى من البرد والجوع، ومن مشاقّ الحياة اليوميّة، إلّا أنّ الشّاعرة الرّوسيّة كفّتْ في لحظة معيّنة عن كتابة تلك الرّسالة، ورفعتْ قلمها إلى الأعلى، منزعجة من التّشكّي الذي تركتْ نفسها تنصرف إليه، وقالتْ: لا بُكاء.
اختارتْ سالفير لروايتها ديباجة مستقاةً من «دون كيخوته»، أي إنّها، حتّى قبل بداية الرّواية، وضعت القارئ في الأجواء المنتظرة. فالأمر سيتعلّق بأمور وأحداث لها علاقة بالتّاريخ الإسباني الحديث. وهنا نُشيرُ إلى أنّ الكاتبة هي نفسُها ابنةُ إسبانيَّيْنِ جمهوريَّيْن اختارا فرنسا منفى لهما. فهي مولودة سنة 1948 في فرنسا، قرب تولوز، وما عاشتْهُ أمّها هو ما أوحى لها بروايتها «لا بُكاء». هذه الرّواية هي، في قسم منها، قصّة أمّها مُونْتَسْ، وقد كانت في الخامسة عشرة سنة 1936، التي شهدت اندلاع الحرب الأهليّة بإسبانيا، أو، بتدقيق أكبر، الحرب بين الجمهوريين من جهة، والفاشيّين بزعامة فرانكو من جهة ثانية. وقد فرّتْ الأمّ إلى برشلونة مع أخيها خوسيه (جوزي، حسب النّطق الفرنسيّ)، وكان أناركِيّاً (فوضوياً، بالمعنى السياسي الثوريّ)، وفيها اكتشفت الحبّ والفكر الثوريّ...
استلهمت العنوان من
مُسَوَّدَة رسالةٍ للشاعرة الروسيّة مارينا تسفيتاييفا

وتستعيد الكاتبة التّجربة المَعيشة للأمّ والخال في زمن ذلك الصّراع الدّمويّ. وهنالك حاضر آخر في الرّواية، ليس بعابرِ الحضور، هو جورج برنانوس (1888 ـــ1948)، الرّوائي الفرنسيّ الكاثوليكي المعروف، ومن أعماله الشّهيرة: «تحت شمس الشّيطان»، «يوميّات كاهن في الرّيف»... وعنه تتحدّثُ الكاتبة في قسم من روايتها. منذ الصفحتين الأولى والثّانية من «لا بكاء»، نقرأ: « نحن في إسبانيا، سنةَ 1936. الحرب الأهليّة على وشك الاندلاع، وأمي فقيرة سيّئة. الفقيرة السيئة هي تلك التي تفتح فمها... في الوقت نفسِه، هنالك ابْنُ جورج بِرْنانوس الذي يُقاتل في خنادق مدريد وهو في البِزّة الزّرقاء التي هي بِزّة الكتائب الفاشية. خلال بضعة أسابيع، اعتبَرَ برنانوس أنّ تطوّع ابنه إلى جانب الوطنيّين كان مُبَرَّراً ومشروعاً. فقد كانت لبرنانوس تلك الأفكار المعلومة عنه: إنّه كان عُضواً نشيطاً في «آكسيون فرانسيز» [حركة سياسيّة فرنسيّة تنتمي إلى أقصى اليمين]. وقد كان حاضراً في إسبانيا في وقت نهوض الجنرالات في وجه الجمهوريّة، ولم يُدرِكْ على الفور حجم الكارثة...». لكنْ سرعان ما ستفرضُ الحقيقة الدامغة نفسها على برنانوس، وسيبدو له بجلاء أنّ الوطنيّين كانوا يبيدون بشكل منهجيّ كلّ من شكّوا في أنّه قد يكون من الجمهوريّين، بينما كانت الكنيسة تمنح الغفران لأولئك القتلة، باسم الأب والابن والرّوح القدس... تُضيفُ سالفير: «لقد أصبحت الكنيسة عاهرة الذين تولّوا التصفية. وبقلبٍ أغثاه التّقزّز، كان برنانوس يشهد هذا التّواطؤ الدّنيء. ثمّ، بجهد مُضْنٍ اقتضاه صحوُ الضّمير الذي جعله يقطع العلاقة مع ما كان يتعاطف معه من قبل، قرّر أن يكتب ما كان شاهِداً ممزّق الأعماق عليه. وهو من قلّة قليلة في معسكره كانتْ لديها تلك الشّجاعة». ما تُشير إليه سالفير هو شهادة برنانوس التي تحمل عنوان: «المقابر الكبرى في ضوء القمر»، وكتابه هذا يتضمّن هجوماً عنيفاً على الفاشيين، أي فرانكو وأنصاره. وكان برنانوس في مايوركة، حين خصّص فرانكو جائزة لمن يقتله.
إنّ ليدي سالفير تُخصّص جانباً من روايتها لتجربة جورج برنانوس تلك، وجانباً آخر لرؤية أمّها للأحداث نفسها التي حكتْها بالفعل، الأمّ مونتس لابنتها ليدي، وذلك بعد مرور خمس وسبعين سنة على انصرامها. وابنتُها، ليدي، تكفّلتْ بالسّرد. وهذا التّوازي بين شهادتين على نفس الفترة ونفس الأحداث يمنح الرواية زخمها.
نُشير، أيضاً إلى أنّ الرّوائيّة اعتمدتْ لغة جميلة ومَرنة، وتركتْ لنفسِها حُرّية إدخال كلمات إسبانية إلى متن الرّواية. وفي الصّفحتين الأخيرتين من الرّواية، نجد الكاتبة تتحدّث عن الأمّ التي استعادت بذاكرتها الحبّ الذي عاشته في كتالونيا، وهي في الخامسة عشرة، وعن برنانوس كذلك، بالصّورة التّالية: «فبراير 2011. أمّي جالسة في كرسيّها الضّخم ذي الذّراعين، الأخضر، قرب النّافذة التي تنفتح على باحة المدرسة. لقد أتعبها الحكْيُ عن صيفها الباهر. فرحُها بالحديث عنه أتعبها. من بين كلّ ذكرياتها، تكون أمّي قد احتفظتْ بأكثرها جمالاً، ذكرى حيّة مثلما جُرْح. كلّ الذّكريات الأخرى (باستثناء القليل منها، ومن بينها ذكرى ولادتي) قد امَّحَتْ... لم يترسّخ في ذاكرتها سوى صيف 36 ذاك، حيثُ احتضنتها الحياة والحبّ... في تلك السّنة التي كانت قاتمة بالنسبة لبرنانوس، وبقيت ذكراها منغرسة في ذاكرته مثلما سِكّين خليق بأن يفتح له عينيه: مشهدان من قصّة واحدة، تجربتان، رؤيتان دلفتا منذ بضعة أشهر إلى لياليّ ونهاراتي...».