عندما قال لي الصديق فرحان صالح صاحب «دار الحداثة»: هل تريدين أن يكتب جورج جرداق تقديماً لديوانكِ الأوّل «اغتيال أنثى»؟ أجبته: «لا شكّ في أنّك تمازحني». عقّب الصديق فرحان: «طيّب نتصل به ونأخذ موعداً ونرى». وهكذا كان. أعطانا جورج جرداق موعداً عند الرابعة من مساء نهار ما عام 2006، في مبنى «صوت لبنان» التي كان جرداق يقدّم فيها برنامجاً صباحيّاً، ويستقبل زواره في صالونها.
جلستُ بخجل أمام جورج جرداق، الشاعر الذي تربينا على شعره. الذي غنّت له سيدة الطرب العربي أم كلثوم «هذه ليلتي» ولحّنها الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي قال فيه: «إنّ في شعر جورج جرداق من الموسيقى ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه، أو يدانيه». الشاعر الذي صادق الأخوين رحباني وعملوا معاً، صديق السيدة فيروز، الشاعر والناقد والساخر وكاتب سيرة الإمام علي بن أبي طالب في مجلّدات، الشاعر الذي طارت شهرته من لبنان الى الوطن العربي كلّه، وهذا الشاعر تجلس أمامه امرأة تهوى كتابة الشعر، وكتبت ما كتبته من نصوص، سمّاها بدوره شعراً.
كان يعتبر أن كل كاتب يعزل نفسه عن الناس هو منافق

عندما احمرّ وجهي خجلاً وأنا أطلب منه تقديم ديواني، أردف: «ولمَ الخجل، هل من يكتب الشعر يكون خجولاً؟ هذا عكسُ الشعر الّذي يتطلّب جرأة ومكاشفة». وتابع: «طبعاً سأقدّم لك ديوانك». أذكر أنه عقّب على إهدائي الدّيوان لأمي التي لم تفهمني يوماً، هكذا كتبت، فسألني عن سبب كتابة ذلك؟ أجبته: «وهي كذلك، أمي تراني منديلاً وثوباً طويلاً يستر الجسد، ولا ترى كلّ ما أنجزته». ضحك طويلاً على إجابتي وجرأتي في الكلام عن أمي، التي كنت أعتبرها أغلى إنسان على قلبي، وأتفهّم كلّ ما تعتقده وتراه. كان فرحي كبيراً ليلتها، عندما طلب جورج جرداق أن أمهله أياماً كي يكتب التقديم. وبعد مرور يومين، أتفاجأ باتصاله قائلاً: «يللا تعالي غداً الى مبنى «صوت لبنان» لتأخذي مقدّمة الديوان». تلعثمتُ في الإجابة، وشكرته، وكنت متشوقة لقراءة ما كتب عنّي. التقينا في صالون «صوت لبنان» في اليوم التالي، وكعادته ممازحاً وضاحكاً، ناولني أوراقاً، وطلب مني القراءة بصوت عالٍ. نفّذت ما طلبه، وكنت أقرأ، ثمّ أتوقّف لأسأله: «كلّ هذا لي وعن كتابي». يجيب مبتسماً: «يا صديقتي: من لا يؤمن بنفسه ويصدّقها لا يصدّقه أحد. وسأقول لك أمراً: اكتبي من دون أن تلتفتي إلى الوراء. اكتبي واتركي النقد لغيرك». كنتُ استمع بشغف لكلام شاعري الكبير، وأقول في نفسي، ما الذي يجعل شاعراً كبيراً كجورج جرداق يحتضنني كتابيّاً، وما أكثر الشعراء الذين تعجّ بهم الساحة الثقافية! كان يؤمن بالكتابة، وبالشعر ويشجع على كتابته، ويخصّ الشاعرات بالتشجيع، فالمرأة بنظره سكتت كثيراً، وحان الوقت كي تبوح. عندما كنت أسأله عمن يفضّلهم في سهرات كنت أنظمها في منزلي، نقرأ فيها الشعر، ونسمع الموسيقى، كان يجيب ضاحكاً: «ليس لديّ فيتو على أحد، وأفضّل الناس العاديين كي أسمع قصصهم، فهم خزّان الكتابة». كان يعتبر أن كلّ شاعر أو كاتب يعزل نفسه عن الناس وهمومهم هو شاعر منافق، وهذا التعبير له.
رحم الله جورج جرداق، الشاعر الذي أحبّ الاشتراكية وكان يردّد أمامنا: «تأثّرت بأستاذي رئيف خوري كثيراً». كان صديق المرأة ومشجعها، وكانت الصحافة الأقرب الى قلبه.
جورج جرداق الشاعر الممتلئ معرفة، الزاخر شعراً، المتواضع كسنابل القمح الملأى، ستفتقده الصحافة، والبرامج الإذاعية التي كنّا ننتظرها بشغف وفرح صبيحة كل يوم، سيفتقده القلم. فلترقد روحك بسلام، يا من كنت أمثولة في تواضعك، لامعاً في شعرك وكتاباتك، وستبقى الأجيال تقرؤك وتبحث في كنوز الثقافة التي صنعت أجملها في بلادنا.
*شاعرة لبنانية