عاش سعيد عقل (زحلة 1912 ـ 2014) زمناً أكثر مما يحتاج إليه الشعراء لصناعة أسمائهم وتخليدها. أدرك صاحب «رندلى» (1950) نهايات عصر النهضة، وبعض شعراء الكلاسيكية الجديدة. جايل رواد الحداثة الشعرية، بشقّها التفعيلي أولاً في نهاية الأربعينيات، ثم بشقها النثري في نهاية الخمسينيات. واصل نجوميته إلى جانب الأجيال التالية، بينما ساهم الرحابنة وفيروز في تعزيز هذه النجومية عبر قصائده المغنّاة.
ربَّى سعيد عقل مهاراتٍ وتقنياتٍ تحولت إلى نوعٍ من الجِلْد اللغوي والبصمة الشخصية. وهي معالمُ وسجايا يصعب التخلي عنها، وخصوصاً إذا كانت سبباً في شهرة صاحبها وفرادة تجربته الشعرية. بهذا النوع من المهارات، طرق باب الخلود في سنٍّ مبكرة، بل يمكن القول إنه حقق في النصف الأول من عمره كل ما كان يطمح إليه. ما تلى ذلك كان تنويعات وتفريعات على المرونة الهائلة التي أبداها في تعامله مع اللغة، وقدرته غير العادية على استدراج الاستعارات والصور إلى قصائده. القصائد نفسها تحولت إلى فضاءٍ تتلاطم فيه الصور والمنشآت البلاغية المبتكرة. كأن ما كتبه الشاعر في النصف الأول من حياته كان بمثابة احتياطي لتمديد حضوره الشعري لاحقاً. طوَّر سعيد عقل المهارات ذاتها التي خدمت فهمه الخاص للشعر، وتعمّق أكثر في موضوعاته المفضَّلة.
صار معروفاً بقصيدته، وصارت قصيدته معروفة به. في الأثناء، خاض الشعر العربي في مياهٍ كثيرة. استجدت نبراتٌ وانحسرت أخرى. نزل الشعراء من علياء النبوة والرؤيا إلى دَرَك اليومي والمهمّش والواقعي، بينما حافظ هو على معجمه الفخم وصياغاته الإعجازية ونبرته العُظامية التي صارت ــ مع طريقته في الإلقاء، وفكرته الأسطورية عن فرادة لبنان ــ مادةً للتندر والمحاكاة الساخرة.
هكذا، ظل عقل حاضراً في الحياة الشعرية الراهنة، وبقي شعره وراء ظهور الشعراء الجدد. في السنوات الأخيرة، أسرف الشاعر في مديح شعره وتبخيس شعر سواه، مانحاً بركته لمن سبق لهم أن أُعجبوا به أو مدحوه. تبخيس لم ينجُ منه المتنبي نفسه. بدا كأنه في غيبوبة شعرية لا تسمح له سوى بسماع نرجسيته المتضخمة.
الواقع أن كل هذا كان جزءاً جوهرياً من حضور صاحب «لبنان إن حكى» (1960). كان سعيد عقل ظاهرة فريدة أو ماركة شعرية. ما إن يلفظ أحدٌ اسمه حتى تتناهى إلينا صورة الشاعر المتأنق، المنفوش الشعر، الجهوري الصوت، والمُفاخر بعبقريته وعبقرية لبنانه. المشكلة أن شغفه بلبنان وتأليهه له ترافق مع تنظيرٍ شبه مَرَضي لحضارة فينيقية منقرضة قادته إلى تبنّي نظرةٍ عدائية للعروبة، وازدراءٍ للتراث العربي. ترجم سعيد عقل جزءاً من هذا الشغف بإنجاز ديوان «يارا» (1961) بالحرف اللاتيني، داعياً إلى الكتابة باللغة العامية أو «اللغة اللبنانيي». تجربة يتيمة لم يُجارِه فيها أحد، ولم يكرر هو التجربة بعد ذلك.
لعل منجزه الأهم موجود في شعره. علينا أن نبعد العديد من آرائه وتنظيراته وميوله الفكرية والسياسية، كي نرى لمعان هذا الشعر المؤهَّل كي يظل لامعاً بعد غيابه. علينا أن نخلِّصه حتى من الطريقة التقليدية التي مُدح بها وصُنِّف بحسب معاييرها. علينا أن نختلي بقصائده، الفصيحة والعامية، ونستسلم لموهبته الفريدة في اختلاق المعاني وتأبيد صلاحيتها أمام الزمن. في الشعر، لا يمكن التشكيك بموهبته الفذة، بل إن سعيد عقل يبدو أحياناً كأنه ضحية موهبته. كأنها أصابته بنوع من «جنون» العظمة الشعرية. جنونٌ ساهم هو، وبعض المقرّبين منه، في تحويله إلى صفة غير قابلة للتصديق، وتستدعي الابتسام أحياناً.
لا يغيب سعيد عقل عن شعره. لا نتكلم هنا عن النرجسية المتفاقمة فقط، بل عن استعراض بطولاته البلاغية داخل قصائده. تكاد كل قصيدة، بل كل بيت أو سطر، أن يكون مناسبة لرهانٍ صعب يخرج الشاعر منه بانتصار جديد على اللغة. في سبيل ذلك، لعب صاحب «قصائد من دفترها» على اشتراطات البحور العروضية. أخذ التفعيلة وترك البحر. ارتاح إلى المجزوءات. أكثر من الجوازات. أحاط قصيدته بقيود وتحديات إيقاعية إضافية. صعّب على نفسه الوزن كي يصل إلى المعنى المستهدف. استباح البنية التقليدية للجملة العربية من دون أن يُفقر فصاحتها وجزالتها. لم يكن غريباً على شاعرٍ بهذه المهارات والطموحات أن يستهل باكورته الشعرية بقصيدة يقول فيها: «ألعينيكِ تأنّى وخطرْ/ يفرش الضوءَ على التلّ القمرْ/ ضاحكاً للغصنِ/، مرتاحاً إلى/ ضفة النهرِ، رفيقاً بالحجرْ»، حيثُ الصورة مترجمة على شكل مشهد يتتالى بحسب وصول ضوء القمر إلى عناصر المشهد نفسه. هذا الأداء البلاغي الذكي سيتطور باتجاهات مختلفة. ستتعقّد جملة الشاعر أكثر. سيُكثر من مواربة اللغة، ويَعافُ مواجهتها مباشرةً. الغزل نفسه صار مناسبةً للإتيان بصورٍ خارقة تليق بامرأة خارقة: كأنْ يقول في ديوان «أجمل منك لا» (1960): «سمعتُ قبل أنْ/ كنتِ وكان الخمرْ/ بحلوةٍ تقول للزمن:/ قفْ! أنا ما تُضمره من أمرْ»، أو: «مدّت إلى الجفن يداً في لمْسْ/ فطارت الشمسُ عن الإصبعْ». الطريق إلى الصور والتراكيب الخارقة كانت تخسِّر القصيدة انسيابيتها أحياناً، وتجفِّف منابع العاطفة فيها، ولكن ذلك كان يهون أمام رغبة الشاعر في ممارسة رهاناته التخييلية الوعرة. ظلت الخلاصات التأملية والفلسفية الإعجازية تشغل مخيلة الشاعر الذي رأى نفسه فوق البشر والشعراء، وفضّل الكلام مع الطبيعة والغيب والزمن والوجود والأبدية، مقارناً نفسه بالكليات والمجازات والآلهة. «هم ركعوا للزمانْ/ لا ترضَ، ركِّعه لكْ». هكذا كتب في ديوان «الخماسيات» (1978) الذي ستُنجز فيه القصيدة على هيئة خلاصات فلسفية وتأملية يحاول فيها الشاعر معانقة المطلق واللامتناهي. في واحدة منها يصبح هو الشعر. ثم يصير إلهاً للشعر يمكنه أن يكون نديماً لإله الكون: «الليلُ زهرُ آسْ/ ربّ، اشربِ الهنا/ معي كبعضِ ناسْ/ واندقَّ بي أنا/ كاسٌ وأنتَ كاسْ». العُظامية ترقى إلى ذروتها لدى الشاعر الذي قرّب خلق الشعر من خلق الكون، ساعياً إلى كتابة شعرٍ إعجازي، مبتعداً عن الدروب المعبّدة، وساكناً في الصّعب: «كأني مهبُّ الريح، والصعبُ منزلي/ وشغلي حطُّ الحُسنِ في الحجر الصلدِ».
في تجربة سعيد عقل التي ستظل محكومة بآراء متناقضة، تجاورت العظامية مع الفرادة والبراعة. اتهمه صلاح لبكي بقلة العاطفة، وصنّف أدونيس شعره في خانة «الرومانطيقية الشكلانية»، ووضعه آخرون بين الرمزين. لكن صاحب الفخامة الشعرية قلّما اكترث بتقييماتٍ كهذه. الخلود هو ما كان يشغل بال الشاعر وبال قصيدته. ولعلَّه نجح في ذلك.
* يسجّى جثمان الراحل يوم الاثنين 1 ك1 في تمام الساعة 11 صباحاً في «جامعة سيدة اللويزة»، وسيتوالى كبار الفنانين على تقديم الترانيم لروحه، على أن يوارى في الثرى عند الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح 2 كانون الأول (ديسمبر) في «كاتدرائية مار جرجس» (وسط بيروت). تقبل التعازي يوم الخميس 4 كانون الأول في الكاتدرائية من الساعة الحادية عشرة لغاية السادسة مساءً، ويوم الأربعاء 3 كانون الأول في «مطرانية الموارنة» (كسارة ـ زحلة)