القاهرة | بالنسبة إلى المصريين، فإن فيروز تساوي الأخوين رحباني. «السميعة» فقط يعرفون إسهامات زكي ناصيف وفيلمون وهبي. يعرفون اسهاماتهما من دون شكلهما. أما ذلك الوجه الناري الغاضب ذو الشعر الثلجي، فمن «من السميعة» لا يعرفه؟ يبقى سعيد عقل اسماً بارزاً في قلب المشروع الفيروزي كما بقدر انفصاله عنه. يبقى شاعراً أكيداً وسياسياً بقدر ما يمكن الشاعر أن يحمل السياسة، ومفكراً بقدر ما يتيح الغضب من «فكر»، ومتعصباً للبنان.
لكن لبنانه بدا في قصائده أجمل. أما تصريحاته، مواقفه، مطالباته، فبدت في كثير من الأحيان أشياءً تستوجب الغفران لا التأييد. وهذه «القومية اللبنانية» بدت للآخرين تشدداً في القُطرية، لكنها على أية حال سمة ارتبطت بأجيال ما قبل القومية العربية. لا ننس أن عقل ليس بعيداً من جيل طه حسين، وهو قد نشأ في بدايات قرن الأحزاب الفاشية، ولم تكن تلك حال أوروبا وحدها. فقد تطلع شبان العرب إلى ما وراء المتوسط. في القاهرة كما في جبل لبنان، اكتشف المتعلمون أن «الحضارة لاتينية»، وأن «التخلف عثماني»، فابتعدوا منه إلى «جذورنا الحضارية». ولم تكن تلك سوى الفرعونية والفينيقية. لكن الثورة في مصر جاءت عكس ذلك، فمحقت كل ما ليس قومياً عربياً، وذلك ما لم تتعرض له «فينيقية» لبنان بالدرجة نفسها، فبقي صوتها بقوة الأصوات الأخرى. مع ذلك، فإن من المفارقات أن الصوت «الفرعوني» الأبرز في العقد الأخير جاء من «القومي» الراحل أسامة أنور عكاشة، لكن عكاشة مثله مثل سعيد عقل لا يستند اسمه إلى الآراء السياسية وإنما إلى إبداع شاهق.
وبينما يمكن بسهولة تمييز الجملة الموسيقية لناصيف وفيلمون عن موسيقى الرحبانية، تبقى لقصائد سعيد عقل سمة مدهشة، فكلماته استندت إلى نفس قاموس الأخوين. أطل عبرها لبنان ممثلاً في الضيعة والقمر واللوز والياسمين. التلال والجسور والمشاوير حضرت أيضاً. بدا عقل شاعراً ينتمي إلى الملعب الرحباني نفسه. مع ذلك كان متمايزاً عن الأخوين، كيف يمكن ذلك؟ لا إجابة سوى في خصوصية بناء القصيدة وكيمياء النص، وفي عبارات تغادر العذوبة الرحبانية المعروفة إلى صور شعرية أقوى من الأغنية ذاتها: «من يومها صار القمر أكبر ع تلالنا»، مثل هذا التصوير المذهل للحب يميّز الشاعر المكرّس لكلماته، يميزه عن أخوين كانت كلماتهما جزءاً من مشروع أكبر. في «أمي يا ملاكي»، تحضر قوة الشعر مجدداً في «لا تزال يداك أرجوحتي»، فهي صورة لا يحتاج تلقيها ـ وحفظها- إلى سماع اللحن. تبدو كلمات الرحبانية همساً جميلاً، لكن لنلمس صورة عقل في «كل نجمة تبوح باسرارا» من أغنية «يارا»، وتبدو الموسيقى في عبارة «ردني إلى بلادي» قصيدة بمفردها.
نادى سعيد عقل باللبنانية، فأجابه بعضهم وعارضه بعضهم. لكن يبقى أنّ جزءاً كبيراً ومهماً من نتاجه كان بالعربية الفصحى، وقد لمس فصاحة الفصحى بقدر عذوبة لمساته المحكية. ستبقى منه «اللغتان» طالما «أبقى الأثر ما لم يزل موصداً».



الميثولوجيا في أعماله

كانت مكتبة الضابط الفرنسي في زحلة باب سعيد عقل إلى القراءة. هكذا تعمق في مآسي اليونان و«المرسح» (وفق تعبيره) لديهم، ولدى الكلاسيكيين الفرنسيين. تأثر بالشعر الملحمي اليوناني مع هوميروس، ونصف الملحمي مع هيزيود، والغنائي مع بندار، والمسرحي مع أشيل وسوفوكل وأوريبيد وأرسطوفان. كذلك، قرأ أهم فلاسفتهم: سقراط وأفلاطون وأرسطو وآخرين. ومن الكتابات اللاتينية التي استهوته: «اعترافات» أوغسطينوس و«خلاصة» توما الأكويني. في الأدب الإيطالي، أحب دانتي، والإسباني لوبه دي فيغا وسرفانتس، وفي الإنكليزي قرأ أعمال شكسبير الخمسة والثلاثين، وكيتس وشيلي، ومن الألمان قرأ غوته وشيلر شعراً، وكانط وهيغل ونيتشه في الفلسفة.
قراءة الأساطير والمأسي اليونانية وتأثره بتاريخ الأديان، انعكس جلياً على أعماله، خصوصاً في مسرحيته الشعرية الأولى «بنت يفتاح» (1935). المسرحية المستوحاة من العهد القديم تروي حكاية يفتاح الذي أنكرته قبيلته لأن أمه كانت مومساً. بعد سنتين، استوحى ملحمته «المجدلية» (1937) من العهد الجديد. تتألف القصيدة السردية من 110 أبيات، تروي قصة لقاء مريم المجدلية بالمسيح. وفي مسرحيته المأسوية «قدموس»، التي صدرت عام 1944، تأثر بالمدرسة الكلاسيكية الفرنسية، بينما استمد موضوعها من الميثولوجيا الإغريقية ــ الفينيقية. فيها يطارد قدموس أخته أوروب التي اختطفها ملك الآلهة اليونانية زوس، ليعيدها إلى لبنان. يقضي قدموس على التنين الذي يحرس أوروب، إلا أن انتحارها يفسد فرحة الانتصار.