جوزيف عيساوي*بعدما استرخى في سنواته الأخيرة هانئاً على سرير أبيض يشبه غيبوبة ناصعة الوقت، يغادرنا سعيد عقل وقد غدا لبنانه أطلالاً دارسة. لكنّ شعره الطائر على أجنحة صوته وبريق عينيه المشعتين بالماضي من أجل المستقبل، لا يفارقان عارفيه ومحبيه الكثر. أراد المثقف الحالم أن ينقل بلاد الارز من دولة المَزارع و"الاقتصاد الشرشوح" الى حداثة تتبنى اقتصاد المعرفة.

ولذلك طرح مشاريع في السياسة والإنماء والاقتصاد والتربية والعمران، فلم يبال بها أحد. ترشح للانتخابات النيابية ولم يفز. هو الشاعر اللبناني الأشهر، وقد فضّل ناخبو مدينته زحلة أبناء الاقطاع عليه. افتتن به الأخوان رحباني وجعلاه معلّمهما في الصنعة الشعرية والمسرح والقومية اللبنانية. هو العائد، مثلهما على الارجح، من لحظة عابرة أو أكثر في القومية السورية، ظَلَّ يرفض كما يرفضان الإضاءة عليها. كره سعيد عقل "ثلاثة خرّبوا الحضارة: ماركس وفرويد وبيكاسو"، منحازاً الى القيم المسيحية وكلاسيكية الأدب والفنون مع حداثة تقف عند الرومانسية والرمزية. بالنسبة إليه، أدونيس ويوسف الخال ومجلة "شعر" خرّبوا الجَمال، ونزار قباني عهّر المرأة. أدان مشاركة الفلسطينيين في الحرب الأهلية، محمّلاً إياهم المسؤولية عنها، ومنكراً أن يكون بين اللبنانيين خلافات طائفية ومصالح تدفعهم إلى التقاتل والاستعانة بالآخر شرقاً وغرباً. كذلك وجد في العروبة إيديولوجيا تذوّب لبنان في المنطقة، منهيةً خصوصيته الحضارية. مجموعتي التي صدرت أخيراً تضمّنت قصيدة بنَيتُها ضداً نفسياً لقصيدته الأوديبية التي غذّت ـ وقد غنّتها فيروز ـ عقدة الأم في الأولاد: "أمي يا ملاكي، يا حبّي الباقي الى الأبد".عرفته مراهقاً مقدماً اليه أول مقالاتي، فعبّر عن عدم صلاحيته للنشر. افتتنت بأدائه لشعره أكثر من شعره نفسه. وحاورته بنبرة نقدية دوماً، فلم يغضب إلا مرة واحدة. وعندما نشرتُ في "النهار" مقالاً يفنّد هزال الشاشات المحلية جعَلَ عنوان افتتاحيته في "السفير"، مبالغاً كعادته: جوزيف عيساوي البطل. سعيد عقل شاعر لبنان والجمال اكتفى من الحداثة بالرمزية والبرناسية. قصيدته ابنة الكلاسيكية في الأدب والرسم. بل إنها في شكلانيتها أقرب إلى فن النحت. مشهديات السينما أو حتى الصورة الفوتوغرافية لم تؤثر في شعره، فظلَّ ابن الصقل والموسيقى الصارمة للبحور متلاعباً بها ومسهماً (منذ الأربعينيات) في تطوير القصيدة. عقل من جيل عُرف بجيل البكالوريا (بمعنى عدم مواصلة تعليمه المدرسي أو الجامعي)، اطّلع على الآداب العالمية عبر تضلعه بالفرنسية. وامتلك مع الموهبة صنعة ماكرة وخيالاً تجريديّاً رفده بالمعرفة. كانت عبارة "شاعر المعرفة" أكثر ما يحبّ أن يوصف به. شعره العامي ارتقى بالازجال، مجرّداً إياها من عفويتها وانفعالها وموضوعاتها التقليدية، مضيفاً تقنية تفتقدها وتنوعاً وزنياً. قلّده كل من كتب بعده الشعر العامي، وقلما نجا حتى البارزون من أثره عليهم. نال عقل مجداً أدبياً على مستوى العالم العربي وشعرائه على اختلاف اتجاهاتهم الشعرية والنقدية وحتى السياسية. لكنه لم يترجَم الى لغات أخرى لاستغراق قصيدته في الشكل واجتهادات العروض واللغة العربية في كيميائها وجرسها الفريد حتى لتفقد الكثير بالترجمة. بل إنّ قراءتها بالعربية في كتاب تجعلها تخسر ما يضيفه إليها عقل في أمسياته وقراءاته حيث تتفجر شلالات هادرة من المياه والصخور والرعد معاً. برحيل سعيد عقل ينطوي آخر الكلاسيكيين المجددين من جيل ما قبل الحداثة ومجلة "شعر". أجيال عدة بعده أثْرت القصيدة العربية بمخيلة قشيبة لم يعترف بها عقل كما لم يعترف بشعراء بارزين من جيله، كالياس أبي شبكة. لكن هذا لا يجعلنا ننسى "حراسته" هيكل الجماليات التي هدمنا حجارة منها وبنينا أخرى، مرة معه ومرات باتجاهات مختلفة، وحجارة ليست بالحجارة بل كأنها دموع حرب لبنان أحياناً وقلق الفرد الوجوديّ الذي لم يعرفه "شاعر الفرح" سعيد عقل. ولم يزدنا زئيره ضد قصيدة النثر إلا إصراراً على مواصلتها. لذا، ربما، كتب أنسي الحاج في الستينيات مقالاً شرساً في مواجهته، أنهاه بـ"لقد مات، لقد مات، لقد مات". اليوم وقد فعلت البيولوجيا فعلها، هل مات حقاً خصوم الحداثة في الأدب والمجتمع والسلطة والدين؟ أم تعلو أصواتهم فاجرة، ملوَّثة بالمقدس، ممهورة بالظلامية والجهالة (وهو ما كان شاعرنا في نقده، من منطلقاته الجمالية، بعيداً عنه)؟
سعيد عقل امتشق اليوم قرناً من الزمن صعوداً الى حيث يتوق في إيمانه. وأخاله متسلقاً عامَيه، بعد المئة، درَجَتَيْن مستوياً على العرش: - مين بتكون؟ - الله. - كاسك يا الله.

* شاعر لبناني