في أواخر شهر كانون الثاني (يناير)، كنا قد التقينا أحمد ناجي قبل صدور الحكم بحقه، وكان معه هذا الحوار:

ــ لماذا يكتب أحمد ناجي؟
ليس لدي خيار آخر! الموضوع ليس رفاهية خاصة للإنسان العربي. أكتب لأنني مجبر على هذا نتيجة نزوع داخلي. الكتابة هي الشيء الوحيد الذي أعرفه، بمعنى أنني لم أجد بداخلي القدرة على التعبير، بالرسم أو الموسيقى أو أي شكل فني آخر. كانت لدي المهارة التي وظفتها في الصحافة والكتابة الأدبية، لكنني أفرّق بين السياقين؛ فالكتابة الصحافية مهنة وكتابة وظيفية. أما الكتابة الأدبية المفتوحة، فتضع الكاتب أمام مسؤولية تجاه القارئ تنطوي على تثقيفه وإمتاعه وتسليته. علاقتي باللغة والكتابة المفتوحة كانت الوسيلة التي وجدتها في داخلي، ومن خلالها استطعت أن أعبّر بها عن نفسي، إضافة إلى قدرتي على البحث عن إجابات الأسئلة التي تشغلني طوال الوقت. الكتابة بالنسبة لي هي الوسيلة التي أتعرّف بها إلى نفسي، وأجري حوارات مع العالم ومع الآخرين.

ــ أين يقف أحمد ناجي بين أبناء جيله من الكتاب، تحديداً بين كتاب قوائم الـ«بيست سيلرز»؟
أقف على الهامش تماماً، ودعينا نوضح المسألة أكثر. صناعة الكتاب وسوق النشر توسعتا وازدادتا منذ عام ٢٠٠٥، وهناك أكثر من نصف مليار دولار ضخّتها أميركا، خاصة إلى «دار نهضة مصر» و«دار الشروق»، ومن بعدها ظهرت كتابات الـ«بيست سيلرز»، واتجهت هذه الدور إلى نشر كتب للمدوّنين من محتويات مدوّناتهم، وتلك النوعية من الكتابات الخفيفة ونشر كتب على أساس محتوى حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وعدد «اللايكات» و«الشير» التي يحصدونها!
وهناك دور نشر توسعت لأنها دور مؤسسة بشكل صلب٬ إضافة إلى عدد الجوائز الثقافية التي تم تخصيصها وزادت من مئة ألف حتى وصلت إلى مليون ومئتي ألف دولار، منها جوائز البوكر، وجائزة «كتارا» التي خصصتها قطر أخيراً. وإذا نظرنا إلى التصنيف الحالي، نجد حلقتين، واحدة لكتابات الـ«بيست سيلرز» والثانية هي حلقة الأدب الرفيع الذي يحصد الجوائز. وبين الحلقتين، هناك دائرة ضيقة جداً وهامشية لا تعمل في إطار السوق. ربما أقف على هامشها، لأن ما أكتبه ليس تلك الكتابات السهلة التي يمكن للقارئ متابعتها وهو على الشاطئ. كذلك فإنني لست غزيراً ولا أنوي أن أصدر أكثر من ست روايات كحد أقصى. عموماً، أنا لست جزءاً من البيست سيلرز ولا الأدب الرفيع٬ الذي تخصص له الحكومات القومية العربية جوائز موجهة تموّلها للحفاظ على شكل الأدب والقيم التي تحرص على ترسيخها وتدافع عنها. وهذا ما تؤكده بيانات الإعلان عن أي رواية فائزة. لا تخرج هذه الحيثيات عن مضمون واحد٬ وهو أن هذه الرواية أو تلك حرصت على التأريخ الاجتماعي والواقعية الاشتراكية، وهذه الموضوعات لا تهمني في الأصل ولست معنياً بأساطير القومية العربية وخرافات ما بعد الاستعمار٬ لأنها في طور التفكك والانهيار حالياً.

ــ تتشابه روايتك «استخدام الحياة» من حيث الأجواء العامة مع رواية «عطارد» لمحمد ربيع. هل هو تدشين لشكل جديد للرواية، أم أنها صرخة تمرد؟
ــ هناك الكثير من الروايات التي تحمل طابع الديستوبيا، منها رواية «الانحناء على جثة» للأردني أحمد الزعتري، و«جمهورية القرد الأحمر» لياسر أحمد و«نساء الكرنتينا» لنائل الطوخي، و«فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي. وكلها أمثلة لروايات تتعرض لثيمة المدينة الفاسدة وخراب العالم. رواية «استخدام الحياة» مكتوبة قبل «ثورة ٢٥ يناير»، لكن في آخر ثلاث سنوات، ازداد في مصر ظهور تلك الروايات، لأنها مرتبطة بالمناخ العام وما فيه من لحظات انحطاط وانهيار للأفكار الكبرى، مثل فكرة الإسلام هو الحل أو الديمقراطية هي الحل، والوحدة العربية وغيرها من هذه الأفكار الذهنية التي سقطت. سقوطها يظهر في أشكال كثيرة من الأدب، وبزوغ إطار عام مسيطر في الظرف الراهن بعكس جيل الستينيات وإيمانه بأفكار عليا عن الحق والخير والجمال والعدل والثقة في الإيديولوجيا مثل صنع الله إبراهيم أو بهاء طاهر وحرصه في رواياته على تمجيد الوحدة والقومية العربية.

ــ على أي نحو ترى المستقبل، وعلى أي مسافة يقع من «استخدام الحياة»؟
ــ لا أمتلك حس النبوءة وليس لديّ هذه الرغبة والقوة. الوضع في مصر والمنطقة كلها شديد السوء، وما نشهده من صراعات وتفتيت للمنطقة وتفسّخ المجتمعات التي أسرتها السلطات الحاكمة. نحن بمثابة أسرى لدى هذه السلطات، وسط أجواء إقليمية تتسيّدها الصراعات المذهبية والسياسية. الوضع برمته يؤكد أننا نسير باتجاه الهاوية. شخصياً، أشعر باليأس، خصوصاً أننا بتنا في مصر 90 مليون نسمة، وسنصل بعد عقد من الزمن إلى 123 مليوناً يعيشون في البقعة الجغرافية نفسها التي لا تتوسع إطلاقاً، بينما يزيد عدد السكان بهذا الشكل المدهش. نحن مقدمون على كارثة لا نعيها. ولن تحلها، لا ديمقراطية ولا ثورة، إلا إذا تعلمنا كيفية استخدام تلك الموارد بحيث تواجه الزيادة السكانية المتوقعة قريباً.

ــ لماذا اخترت تقنية رواية «الكوميكس» في «استخدام الحياة»؟
ــ أعشق هذه التقنية. ومنذ زمن اشتركت في ورشات ودورات لتعلمه. وعندي شغف بكتابة الكوميكس، وكتبت أكثر من قصة٬ لأن الكوميكس مبني على ملء الفراغ الأبيض الموجود بين كادرين من دون أن نراه. وبالمعنى نفسه، أحاول كتابة رواية الكوميكس. يعني مثلاً هناك فصل كامل من الرواية عن العاصفة بالرسومات، ما يتيح للقارئ فرصة تكوين صور في خياله الخاص.

ــ هل يمارس الروائي لعبة الحكي بديلاً من ثرثرات البشر العاديين؟
ــ في حالتي لا أهتم بالحكي. لا أحب الكتابة القائمة على فكرة الحواديت. الكتابة بالنسبة إليّ مجهود ذهني ومعرفي؛ مثلاً شخصية «إيهاب حسن» هي شخصية حقيقية مقيمة في أميركا، وهناك في «استخدام الحياة» إشارات لكتاب وفنانين وأحداث تاريخية يرددون حقائق معينة. الصراع الحاصل في الرواية ليست لمجرد الحكي، بل لطرح شكوك في ما نعرّفه على أنه قصص حقيقية مسلم بها، لكن لدينا شكوك مبنية على الاستدلال المنطقي ومعنى الحقيقة متغيّر، والمعرفة وإدراكنا لها متغيّران أيضاً.

ــ الشكوك المبنية على الاستدلال المنطقي استفزّت المؤسسة الدينية، وكانت نتيجتها سجن الباحث والمفكّر المصري إسلام البحيري؟
ــ لم أتابع جيداً قضية إسلام البحيري، وهو لم يقل أيّ شيء جديد. مسألة الطعون في التراث الفقهي والديني ليست بجديدة. هناك مسائل أكثر إشكالية وسجالية طرحت قبل طروحات إسلام. وقد تكلم وكتب فيها الكثير من المفكرين.
نحن مخطوفون، ومن الممكن أن يقتل أحدنا في أي لحظة. في ما سبق نموذج ناصع عمّا أقوله، إذ لم يحاسب محمد الغزالي على تحريضه على قتل فرج فودة في المناظرة المعروفة. ولو كان الغزالي قد حوكم وعوقب على فعلته، لما تكرر المشهد نفسه مع البحيري. المشكلة في حالة إسلام أنه تعارض مع أهواء السلطة الدينية في الأزهر، الذي ينتهج ويتبنّى مواقف وآراء السلفيين نفسها. والقول بأنه لا يحق للبحيري التعرض للتراث بدعوى أنه ليس أزهرياً مردود على صاحبه، بوجود عشرات الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه في الأزهر التي ناقشت وقالت ما قاله البحيري، مثل قضية أن الحجاب ليس بفريضة، ولم يتعرض أحد لهؤلاء لأنهم أبناء المؤسسة وجزء منها. آراء البحيري تصادمت مع سلطات المؤسسة الأزهرية وشيوخها ممن يدعون إلى ارتكاب جرائم مثل الختان، وزواج الأطفال. باختصار، الهجوم على البحيري وصدامه مع الأزهر جزء مما وصلنا إليه في القضايا التي لها تماس مع الدين، رغم أن الوجه الآخر للأزهر من شيوخ يطلقون فتاوى وأحكاماً لا يحاسبون عليها٬ مثل أنه «يسمح للموظفة أن ترضع زميلها في العمل».

ــ تزامنت مع جيل الستينيات الروائي قامات نقدية كبيرة، كيف ترى الحركة النقدية اليوم من جيل الشباب؟
ــ في مسألة كتابات البيست سيلرز٬ التي ظهرت في القرن الـ١٩ تحت مسمى «مسامرات الجيب»، وشهدت مرحلتين من ١٨٩٠ ــ ١٩١٥، والفترة الثانية من ١٩٢٢ــ ١٩٣٠، ترجمات غير منضبطة لروايات فرنسية وإنكليزية شبيهة بالأعلى مبيعاً، مثل رواية «مدن في الظلام» (١٩٠٦) التي كانت تتناول فساد سوق الأسهم العالمية، وكان أحمد فتحي زغلول أشهر من ترجم هذه الروايات. كان يقرأ كلمتين ويكمل الباقي من تأليفه الشخصي، إلى الدرجة التي اعتبرتها جريدة «المقطم» أنها كلام فارغ. أما مسألة النقد، فقد كانت صنيعة النخبة البورجوازية التي أسّست حركة نقدية أشبه بمانيفستو، وضعت فيه معايير للأدب والرواية، منها وحدة المكان مثلاً، وتم ترسيخ هذه المعايير في السلطة النقدية المستندة إلى السلطة الحاكمة، ما أدى إلى تجاهل وتهميش مبدعين أمثال رمسيس يونان وألبير قصيري. وهذا كان واضحاً في تخطّي المجلس الأعلى للثقافة لهما، ضمن منحة التفرغ التي كان من أعضائها أم كلثوم وعبد الوهاب.
هناك سلطة ممنوحة من الدولة لتلك المؤسسة النقدية لتخدم القضايا التي تتبناها الدولة، ورأينا كيف هاجم عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم نجيب محفوظ. حالياً، هذه السلطة النقدية تتفكك وتسقط نتيجة ثورة الاتصالات التي أتاحت للقارئ أن يعبّر عن نفسه. وفي موقع مثل «الغود ريدز»، وهو أحدث أنواع دمقرطة النقد، أصبح للقارئ الآن صوت يكتبه ويسجله. وعلى أي حال، فالدولة لم تعد مهتمة بالثقافة أو المتاحف أو الاستثمار في الثقافة بوجه عام.

ــ هل فرضت الطبقة البورجوازية انحيازاتها على الأدب؟
ــ الشريحة الاجتماعية للطبقة الوسطى تفرض أخلاقها لحماية مقوماتها الاجتماعية وحساباتها الخاصة. هذا لا ينفي أنها مؤشر صحي إلى المجتمعات الإنسانية، فمنها يخرج المبتكرون والمفكرون والفنانون٬ شريطة أن يكون هناك حراك وصراع داخل مجتمع مفتوح أشبه بالدينامو، كما كانت الحال في مصر أثناء وجود الإنكليز. لكن المشكلة تتولد حين تتدخل السلطة بأي قوة، سواء كانت قوة المال أو قوة السلاح، وتفرض معتقداتها بقوة السلاح أو القانون، بينما وجود مساحة للحرية والديمقراطية يخلق مساحة للنقاش تفيد المجتمع وتجعله في حالة ابتكار وتنوع متجددة. لكن في غياب هذه القيم يتكلس المجتمع وينغلق على نفسه٬ ويحدث التناقض بين الشعارات المعلنة والواقع.

ــ هل يمكن إعادة تشكيل القاهرة كما رآها إيهاب حسن أم كما أرادتها «بابريكا»؟
بالفعل يعاد تشكيلها الآن بدوافع أمنية ودوافع الاستثمار مثل الذي نشهده من تفريغ لوسط البلد، من أجل تحويله إلى متحف! الحكومة تفتعل الأسباب والمشاكل، وتمنع الأنشطة الثقافية والفنية، كما حدث من إغلاق لمسرح «روابط» و«غاليري تاون هاوس»، وإلغاء «الفن ميدان»... هذه الأنشطة كانت تلقى رواجاً وحضوراً كبيراً٬ ولو قلت لي اتجه إلى «دار الأوبرا» أقول لك الآن إنّ فناناً مثل محمد منير لم يعد يجرؤ على الغناء في الأوبرا. هناك توجه حالي يقضي بقتل وسط البلد وتفريغه من النشاط الثقافي، ومن الحفلات التي تقدم فنوناً ليست متوافرة في أماكن الترفيه الأخرى وتكون على حساب الثقافة.

ــ هل ستعيد حساباتك بعد كل ما تعرضت له من محاكمة على الخيال؟
ــ في البداية أخذت القضية كأنها مسألة هزلية جداً. لكن بعد تحويلها إلى المحكمة، صارت جدية. وكان معي اثنان من المحامين المتخصصين في مثل تلك القضايا، وكان موقفنا القانوني سليماً جداً. أما بالنسبة إلى موقفي القادم في الكتابة، فلن أعيد أي حساب بالطبع٬ لكنني سأكون أكثر حذراً في النشر.