عمان | بين 2008 و 2010، أنجزت المخرجة الفلسطينية نجاح عوض الله ثلاثة أفلام وثائقية رصدت وجوهاً متميزة من قطاع غزة رغم الهامشية التي تبدو على ملامح شخصياتها «بطلاتها»... هامشية يفرضها مجتمع محافظ وبسيط في تقديم إنجازات أولئك النسوة اللواتي أسهمن في تطوّره وتنويره. إنجاز المخرجة يشكّل نجاحاً للسينما الوثائقية الفلسطينية عموماً على مستوى الرؤية الفكرية المتميزة، والأداء الفني المتقدم، إضافة إلى كون المخرجة هي الباحثة وكاتبة سيناريو أفلامها.
ثلاثة أفلام تبين أنّه يمكن للفنان أن يخترق التابوات ويسير في الطرق الوعرة لتقديم ما هو متميز. تجربة نجاح عوض الله هي ثمرة غوص في المجتمع الغَزّي من جوانب متعددة. تبدو مهجوسة بالشخصيات التي تقدمها عمقاً وصدقية. عن هذا الجانب تتحدث عوض الله لـ«الأخبار»: «عادة ما تغريني الشخصية بحدّ ذاتها. هناك من يملك القصة الجميلة والمثيرة لكنّه لا يستطيع روايتها، والفيلم لا يحتاج فقط إلى قصة بل يحتاج أيضاً إلى راوٍ جيد».
في البدء، تلتقط المخرجة حال ثلاث نساء أجنبيات يعشن في غزة. يوثّق فيلم «هناك هنا» لحياة امرأة رومانية وأخرى بلغارية وثالثة روسية، يتحدثن عن تجاربهن في العيش مع أزواجهن وعائلاتهن بأسلوب يجمع القصة المحكية والمادة البصرية التي تعكس مدى التصاق هؤلاء النسوة بالبيئة المحيطة، والعادات والتقاليد المحلية، والتبادل الثقافي والإنساني بينهن وبين هذا المجتمع الغريب. تقول المخرجة: «في هذا الفيلم، كنت أرقب عن كثب ــ من خلال علاقتي بالنساء الأجنبيات في غزة ــ حجم المعاناة على صعيد اللغة والتأقلم مع ظروف البلد سياسياً واجتماعياً وثقافياً. قصص النساء الثلاث كانت تتحرك أمامي من خلال تفاعلها مع المجتمع الغَزّي، أردت القول إن التعايش بين الشعوب ممكن، والنساء الثلاث أصبحن جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي في غزة، يُعلِّمن أطفاله الموسيقى، ويتعلمن كيف يصُغن علاقتهن مع المحيط».
الفيلم الثاني «عرايس» يتناول حياة امرأة مكافحة منذ انتقالها من بيت أهلها إلى بيت الزوج وأهله، حين كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وكيف بدأت تذلل الصعوبات من «حَلْب» البقرة، إلى إرساء «مشروع نموذجي لتربية الأبقار»، والافادة منه بطرق علمية، ومساهمتها في تعليم أبنائها ووصول اثنين منهم ليكونا طبيبين. تقول المخرجة «التقيت بالسيدة أسمهان أو «أم صالح»، فوجدتها امرأة ذات حضور قوي، وقدرة على تقديم قصة حياتها بشكل مؤثر، أعجبت بها كنموذج للمرأة الفلسطينية المكافحة رغم الحياة القاسية التي عاشتها، إلا أنّها استطاعت أن تخلق شيئاً، فأم صالح لديها مشروع في الحياة تعرف كيف تديره».
أما الفيلم الثالث «حاملة الجمرة»، فرغم كونه يتناول نضالات أرملة معين بسيسو، وما تمثله في حياة هذا الشاعر وتجربته، إلا أنّ حضور الشاعر في الفيلم يجيء على هامش «حكاية» السيدة صهباء البربري، امرأة من أوائل الشيوعيات والشيوعيين في غزة. من خلال تجربتها في السجون المصرية في زمن عبد الناصر أواخر الخمسينيات، نكتشف الكثير من تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في غزة وفلسطين ومصر. في السجن، لا تتعرف إلى معين بسيسو فحسب، بل أيضاً إلى مناضلات مصريات منهن الفنانة إنجي أفلاطون والممثلة محسن توفيق... لذلك فهي قصة بذاتها، ولهذا كان تناولها من قبل المخرجة بصفتها الشخصية، لا بصفتها أرملة شاعر كبير.
عن هذه التجربة، تقول عوض الله «منذ طفولتي وأنا أسمع من والدي عن المناضلة صهباء البربري التي اعتقلت معه في المعتقل نفسه أواخر الخمسينيات. عندما كبرتُ، لم أعد أسمع عنها شيئاً في الوقت الذي كنت أسمع فيه عن الشاعر معين بسيسو. فوجئت بأنها في غزة. خمس سنوات وأنا أسعى خلفها، لا تريد الحديث عن نفسها، تتحدث عن معين بسيسو، أما عن نفسها فلا. وقد أغرتني حقبة الخمسينيات من خلال السيدة صهباء وتجربتها وطفولتها في تلك الفترة، والمعاناة في السجون المصرية التي لا يعرف عنها كثيرون. هذا الفيلم تكريم لهذه السيدة التي جذبتني ببساطتها ورومانسيتها الثورية وأناقتها».
يبقى طبعاً الاهتمام بالجوانب الفنية للأفلام الثلاثة، حيث الموسيقى المعبرة، والتصوير المتعدد الزوايا، والأداء القوي للشخصيات، والشهادات التي تعزز بناء الشخصية، ما يجعل كل فيلم عالماً قائماً في ذاته. لكنّ البؤرة التي ترتكز إليها الأفلام، هي نقطة انظلاقة المخرجة بتوجهاتها التقدمية، ورؤيتها إلى مفاصل أساسية في حياة شخصياتها. وربما أمكن القول إنّ إنجاز المخرجة مفاجئ حين يأتينا من غزة، فكيف تتعامل سلطة «حماس» مع عمل ينتقد سياساتها ويؤكد على التحولات السلبية في عهدها؟ تقول المخرجة إنّ «أحداً لم يقترب من هذه الزاوية، لا أدري هل هو الخوف؟ أم هي الرقابة الذاتية، أم الوقت لم يحن بعد؟ لكن من خلال بعض اللقطات الصغيرة في بعض الأفلام التي تتعارض مع رؤية «حماس» الاجتماعية، أستطيع القول بأنها لم تلقَ القبول، ولم يتم التصريح بعرضها إلا بعدما شطبت تلك اللقطات التي رأت حكومة «حماس» فيها خروجاً عن ذائقتها، فلا يمر فيلم في أي مهرجان دون أن يمر بالرقيب».