لندن | بعد فوزه بجائزة «هيئة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين» (فيبريسي) في «مهرجان كان» الأخير ومروره في أكثر من احتفالية سينمائية، تنزل رائعة المخرج البيلاروسي الأوكراني سيرغي لوزنيتسا «في الضباب» إلى الصالات البريطانية هذا الشهر. في هذا الشريط، يترجم صاحب «يا فرحتي» (2010) رواية مواطنه فاسيل بيكوف المُهمّة الى السينما بعد أكثر من عقد على قراءتها والانبهار بعوالم شخوصها.
يأخذنا العمل الروائي السينمائي الى واحدة من جبهات القتال في غرب الاتحاد السوفياتي السابق وتحديداً بيلاروسيا عام 1942. نتابع هنا فصولاً من أجواء الحرب العالمية الثانية لكن بلغة أخرى. لغة تبتعد عن مشهديات المعارك الكبرى، واجتراح البطولات على الطريقة الأميركية كما في «إنقاذ الجندي راين». إنّها أقرب الى لغة التأمل الفلسفي والإنساني في مصائر شخصيات عادية وضعها قدرها العاثر في وضع غير عادي. يفتح الفيلم على قرية محتلة من قبل القوات الألمانية، وهناك مجموعة من الرجال تساق الى ساحة الإعدام إثر اتهامهم بعمل تخريبي يطال سكة قطار. لا نرى كمشاهدين الفعل ولا العقاب على الشاشة. لكن إطلاق سراح سوشينيا (فلاديمير سفيرسكي) بين المحكومين بالإعدام، يثير تساؤلات كثيرة تطال سمعته، وتضعه في خانة الخونة والمتعاملين مع قوات الاحتلال النازي. إزاء هذه المحنة/ التهمة الخطيرة، لا يستطيع سوشينيا الدفاع عن براءته. يفشل في إقناع زوجته مثلما يعجز عن وضع حد لنميمة سكان قريته. ما يدفع برجالات المقاومة في الغابات المجاورة، أولهم بوروف وفويتيك، الى اعتقاله في بيته من أجل تصفيته. كانت الأسئلة الموجهة الى سوشينيا بمثابة اتهام يصعب رده: هل تعرف ما هو ذنبك؟ لماذا أقدمت على هذا الفعل؟ لماذا أُعدم الباقون فيما أطلق سراحك؟ ولعل السؤال الأهم الذي يطرحه الشريط في هذا السياق، كيف يمكن أن تثبت براءتك في ظروف حرب عالمية وشكوك الولاء تطال الجميع؟ ذلك أنّ قرار الإعدام قد اُتخذ وما على بوروف وفويتيك سوى تنفيذه. يُطلب من سوشينيا مصاحبة الرفاق الى غياهب غابة وحفر قبره بيده. وعلى اثرها، ينتقل الشريط الى مستوى آخر.
«الرجاء لا تبلغ زوجتي. قل لها إنّ الألمان قتلوه» يقول سوشينيا لبوروف، فيردّ الأخير «احفر وبعد ذلك سنرى». على هذا المنوال، تتشكل الحوارات بجمل قصيرة، لكنها تقول الكثير بشأن الحدود الفاصلة بين البطولة والخيانة. ومثلما كانت تهمة الخيانة جاهزة، فإنّ سوشينيا هو الآخر اقتنع بعدم جدوى الدفاع عن براءته في ظل غياب الدليل، فقرر المضي الى آخر الشوط مدفوعاً بعزة كرامته الإنسانية وصمت مُعذب. إلا أنّ تبادل إطلاق النار مع قوات الاحتلال النازي، وإصابة بوروف بطلق ناري، يقطع هذه الحوارات ويؤجل عملية تنفيذ الإعدام بسوشينيا. وفي ظل هذه الأجواء الصعبة، يقرر فويتيك ترك رفيقه بصحبه سوشينيا من أجل الحصول على الدواء والخبز من قرية مجاورة.
استعان المخرج سيرغي لوزنيتسا بمدير التصوير الروماني أوليغ موتو (أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان). حافظ المخرج والمصور معاً على أجواء الرواية وعوالم شخوصها الداخلية مثلما هي. حرب من دون معارك عسكرية، ولا معالم للمدنية في مواقع التصوير، وغياب تام للموسيقى التصويرية، وهناك 72 قطعاً لفيلم يتجاوز الساعتين. لذا يمكن إدراج «في الضباب» ضمن اشتغالات أخرى صاغتها تجارب مدرسة الموجة الجديدة في السينما الروسية. تلك التي تعتمد على المزج بين تقاليد هذه السينما وإنجازات روادها والتقنيات الأوروبية الغربية، والغاية تصويب قراءة تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق بعيداً عن إلزامات الرقيب، وضمن مسعى جديد لمقاربة أحداث هذا البلد الكبير. ولنا في شريط «الفصيلة التاسعة» لفيودور بوندارتشوك، و«العودة» لأندريه زفياغينتسيف الحائز «أسد البندقية الذهبي» عام 2003، مثال وليس حصراً.
لا أحكام قطعية في هذا العمل الفني المهم، بل شخصيات عادية تدور في حبائل الصدق والبراءة والنميمة والشك والنذالة، وفي لعبة المصائر المتقاطعة. دراما بصرية صاغ تفاصيلها لوزنيتسا بحسّ الفنان ومتعة القارئ. ولعلها رسالة أراد المخرج وقبله الروائي فاسيل بيكوف إيصالها لنا كمشاهدين وقراء.