بغداد | انتهاكات الحريّات الصحافية في العراق مستمرة، ومعها يتواصل سيل دماء ضحايا جدد من أهل المهنة، لكنّ العلامة الإيجابيّة الوحيدة هي قدرةُ الصحافيّين هذا العام على تشكيل جماعات ضغط مؤثّرة، مثلما حصل في أوائل 2013 في حملة التضامن مع الخبير الاقتصادي مظهر محمد صالح. أثمرت الجهود عن إطلاق سراحه، قبل أن يطلق سراح الصحافي الفرنسي نادر دندون في شباط (فبراير) الماضي، عقب أكثر من وقفة احتجاجية. وقبل ثلاثة أشهر تقريباً، برز إلغاء لجنة الثقافة والإعلام النيابية لمسوّدة «قانون جرائم المعلوماتية» بعد الاعتراضات الكثيرة التي قابلته من قبل جموع صحافيّي العراق ومدوّنيه.
واحدٌ من الأحداث التي أثبتت أنّ مهنةَ الصحافةِ في بلاد الرافدين ما زالت تُشكّل خطراً على العاملين فيها، هو ما تعرّضَ له صحافيو أربع جرائد يومية في بغداد (الدستور، والمستقبل العراقي، والناس، والبرلمان)، خلال «هجمات منظّمة» بالسكاكين والقبضات الحديديّة. وحتّى لحظة كتابة هذه الأسطر، يبقى خبر إغلاق جريدة «العالم» اليوميّة هو الحدثُ الذي هزّ الوسط الصحافي العراقي برمّته وبثّ فيه الحزنَ والأسى. خطوة أتت بعد أيّامٍ فقط من حجب إعلانات 16 وزارة وعشر دوائر كبيرة عن الصحيفة التي جاهدت للحفاظ على استقلاليتها. رئيس تحرير الصحيفة فراس سعدون شرح الصعوبات التي تواجه المؤسسة في مقال حمل عنوان «ما نعوفكم!» يوم الأحد الماضي. وجاء في المقال: «إنّهم يظنون أنّ البلاد «حلقة حزبية» يفعلون فيها ما يحلو لهم. يقصون هذا ويقرّبون ذاك، يتخذون قراراً بالإثبات، وآخر بـ«الحذف»... وكلّ هذا من دون رقابة. يحدثُ هذا عندكم، أنتم الذين تشترون التضييق وتبيعون الحريّة. يحدثُ عندكم... نعم... لكنّه لا يحدث عندنا نحن الذين لم ننخرط في حلقات حزبيّة ولم نتورّط في تنظيم ولم نتربّ على أيديولوجيا ولا نعرف الانصياع لإرادة تغايرُ قناعاتنا... لذا «ما نعوفكم». ما نعوفكم لأنّ البلاد ليست حلقة حزبية... لأنّ مستقبلها لنا وليس لكم».
وتقول مصادر صحافيّة إنّ «ما جرى نتيجة طبيعية لأداء «العالم» الذي «لا يجامل ولا يسعى إلى التقرّب من أي جهة سياسيّة». ومع إيقاف الإعلانات، صارت مواصلة الإصدار بالنهج نفسه غير ممكنة، لكنّ المصادر تؤكد أنّ «بقاء أصوات محرري الجريدة حرّة أفضل من تقديمها التنازلات».
وعلى صعيد التنظيمات والتشكيلات الصحافية، فإنّ الاستقطاب حاضرٌ بين صحافيّي النقابة الأمّ وقرينتها «الوطنية» التي شُكلت مطلع العام الحالي، إلا أنّ البعض يجدُ التنافس على تمثيلِ الوسط الصحافي طبيعياً واعتيادياً في البلدان التي تخطو صوب التعددية وتأسيس تجارب واعدة في المجتمع المدني، الأمر الذي حرّك حواراً من نوعٍ آخر مع لجنة الثقافة والإعلام. الحوار مع اللجنة النيابية يتمحور حول «تعديل القوانين الموروثة من الحقبة الديكتاتورية وتقريبها من روح الحريّات»، إضافة إلى «حرّية الصحافي العراقي في اختيار النقابة التي يريد»، ولا يفوتنا أنْ ننوّه بأنّ قسماً من الصحافيّين أخذَ يفكّرُ بصوتٍ عالٍ من أجل تأسيس اتحاد للمحررين العراقيين.
وحول السجال المتعلّق بـ«قانون حقوق الصحافيّين رقم 21 لعام 2011»، يبرز دور «جمعية الدفاع عن حريّة الصحافة في العراق» الناشطة منذ أشهر لتعديله. وأظهرت دراسةٌ أجرتها الجمعية أنّ أكثر من 85 في المئة من العينة التي شملها الاستطلاع رأت ضرورة تشريع قانون جديد يعزّز حريّة الصحافة والتعبير، فيما وجد نحو 84 في المئة أنّ «قانون حقوق الصحافيّين» لا يوفر لهم أي دعم أو حماية قانونية. التصعيد والتجييش الطائفي الحاصل منذ أشهر لدوافع ومكاسب سياسيّة، ليس ببعيدٍ عن الصحافة ودورها في خلقِ رأي عام ينتصر للقضايا الوطنية ويُسهم في الحفاظ على وحدة العراق. وهذا ما يحيّر الصحافيين لجهة التعليق على قرار هيئة الإعلام والاتصالات، القاضي بتعليق عمل عشر قنوات فضائيّة لـ«تبنّيها خطاباً طائفيّاً» رافق أحداث «الحويجة»، مؤكّدة أنّ تلك القنوات عملت على «تمزيق» نسيج العراق الاجتماعيّ من خلال التحريض على العنف والكراهية الدينيّة والدعوة إلى ممارسة أنشطة «إجرامية انتقامية»، ومشدّدة على ضرورة إدراك أنّ حريّة التعبير عن الرأي «ليست حقّاً مُطلقاً».
«مرصد الحريّات الصحافيّة» من جهته، طالبَ بتقديم إيضاحات حول مبرّرات قرار إلغاء رخص هذه القنوات ومنعها من العمل، وتحديد معايير «التحريض» التي تمّ بموجبها اتخاذ هذا القرار بحقّ قنوات «بغداد» و«الشرقية» و«الشرقية نيوز» و«البابلية» و«صلاح الدين» و«الأنوار 2» و«التغيير» و«الفلوجة» و«الجزيرة» و«الغربية» كون ذلك «يمثّل سابقة تطعن في صميم النظام الديموقراطي الحديث والسياقات الدستوريّة الواضحة الداعية الى عمل وسائل الإعلام في كلّ الظروف وفي مختلف الأحوال».
وقبلها، كانت رئاسة مجلس النواب قد اتّخذت قراراً بتنظيم حركة الصحافيّين المعتمدين لديها، ويقضي بتحديد حركتهم في البرلمان. وعلى الرغم من أنّ الرئاسة كانت قد جمدت القرار بعد ورود اعتراضات عليه، إلا أنّ حركة الصحافيّين والإعلاميين لم تعد مثلما كانت في السابق بسبب العراقيل البيروقراطية التي فرضتها الرئاسة أمام تحرّكهم.
دفاع الصحافيّين عن حريّتهم وحقوقهم مستمرّ، ومعه يتواصل مسلسل اعتقال صحافيّين هنا أو اعتداء يطالُ مؤسّسات إعلاميّة هناك، أو إعلامي ينتظرُ من ينقذ حياته كما هي الحال مع محمد فاضل طه الذي يواجه خطر الموت، كونه يرقدُ منذ شهر تقريباً في «مدينة الطب» في بغداد، من دون أي تطوّر في حالته الصحيّة. وضع طه الصحي تدهور بعد إصابات بليغة إثر محاولة اغتيال تعرض لها في مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين) قبل حوالى خمسة أشهر حين كان متوجهاً الى مكتب قناة «الرشيد» الذي عمل مديراً له في تكريت.