ابتداء من النصف الثاني للقرن السادس قبل الميلاد برزت شخصيات عظيمة في المسرح: اسخيلوس وسوفوكليس وأوربيدس. كان ثمة عقول وهبت الدنيا التراجيديا الاغريقية كما تجلت الكوميديا في روائع اريسطوفان.
الرومان وهبوا الانسانية أول صورة لبناء دار للتمثيل. وسينيكا هو الذي اوقد نار كتّاب المسرح في أول عصر النهضة الذي بزغ بعد ليل طويل شديد السواد. والذي نهض بالسياسة والدين والفن. وما شكسبير إلا المع نجومها ومن أفضل هباتها.

وعم المسرح بلاد العالم ، وتباهت به أمم الدنيا على اختلاف لغاتها. وكان : أريوستو وماكيافللي والكوميديا دل ارته ، إلى لوب دي فيغا، وتيرسو دي مولينا وكالدرون دي لاباركا، والمسرح الأليزابيتي، والكلاسيكي: كورنيّ وراسين وموليير...
ومن ثم انطلقت مسيرة حثيثة نحو الحداثة : ليسنغ، اِبسن الدوق ساكس ميينغن وستلانسلافسكي وتشيخوف وراينهارت ومايرخولد وتايروف وبسكتور وبرشت
وبيكت وبروك وألبي وبنتر وويليامز وميلر، واوجين وايونيسكو وغروتوفسكي.

وفي كل مكان وزمان كان التواصل قائماً، وهكذا نفهم ما صرح به بيتر بروك: "كل شيء جدير بالاهتمام عند بريشت وبيكت وأرتو موجود في شكسبير.".

( ما تقدم لم يكن مخصصاً لهذه القاعة ولا لأهل المهنة والعارفين بتاريخ المسرح، بل لجمهور القراء).
كثر هم الرواد الذين طعّموا المسرح العالمي بحضارات وثقافات متنوعة مما أغنى "التثاقف" واثمر.

جاءنا المسرح متأخراً 2437 سنة. في سنة 1837 ميلادية ولد المسرح العربي مع أول روادنا مارون النقاش (لبنان) والثاني أحمد أبو خليل القباني (سوريا) والثالث يعقوب صنّوع (مصر).

الأول دخل من باب النص، والثاني التفت اولاً إلى عناصر الغناء والانشاد والرقص، والثالث مارس التمثيل عمليا مع فرق أوروبية زارت مصر 1870.

مع اشتداد عود النهضة العربية الأول ولّد المعلم بطرس البستاني في "محيط المحيط" للمرة الأولى لفظ المرسح حين كتب: "المرسح عند المولدين مكان اللعب والرقص".
تمركز المسرح مع النهضة، في بلاد الكنانة، في مطلع القرن العشرين ولم يجد رواد النهضة حرجاً في الاستقاء من مصادر الثقافة العالمية والاستفادة من خبراتها في الصياغة والبناء وكل أدوات الحرفة من دون اغفال لاستلهام موضوعاتهم من بيئتهم العربية.

ولعل التأمل في أعمال أولئك الرواد يفيد في التغلب على العوائق النفسية والفنية في اطلاق شرارة البناء المسرحي. فنحن نراهم يستلهمون من مسرح الأغريق (أوديب الملك، بيجمالميون) ومن التراث الفرعوني (إيزيس) ومن ألف ليلة وليلة (شهرزاد) سواء بسواء. ويستخدمون أساليب مختلفة فصحى وعامية. ولم يترددوا في اختيار اللغة المناسبة وصولاً إلى العامية للشعب والفصحى للمتعلمين، مستأنسين بنصيحة الجاحظ الذي قال بضرورة أسقاط الإعراب في الحوار الذي يتضمنه القَصَص الشعبي. وبابن خلدون الذي انحى باللائمة على النجاة لعدم رصدهم جديد اللغة ولجمودهم عند اللغة التقليدية.

وكانت الستينات والسبعينات من القرن الماضي بركانا متأججاً يتفجر أعمالاً ابداعية في الفكر والفن والثاقفة بعامة. وأسهم المسرحيون العرب بهذه الحركة العظيمة كتابة واخراجاً وتمثيلاً مما يجعلنا نقر بالاضافات التي استحدثوها. وإذا كنا لا نستطيع الكلام فعلاً على مدماك
عربي كامل في عماره المسرح العالمي شبيه بتلك المداميك التي اضافتها بعض الشعوب والحضارات الأخرى فإنه لا بد من الاعتراف بان هناك بداية جيدة وحجارة رصفت، وإن لم تكتمل بفعل عوامل تسأل عنها الأزمة العربية العامة ولا سيما في الثقافة والمسرح وسائر الفنون.

فترانا اليوم امام مسؤولية إكمال هذا المدماك وانجازه على الوجه الصحيح الذي يمحضه صفة العالمية.

فماذا علينا أن نفعل اليوم وما هي الخطوات المطلوبة للقيام بما علينا، نحن الباقين أحياء، أن نقوم به لإبلاغ الرسالة للاجيال الطالعة؟؟

المطلوب ليس أن نقيم ندوات نكثر فيها الكلام من دون التوصل إلى نتائج محددة. المطلوب ليس ان نلف وندور حول المشكلة بل أن نقتحمها .

المطلوب في عصر العولمة والانترنيت ، وتعميم الثاقفة المعلبة وخراب المدينة بمعناها الانساني الحميم.
المطلوب بداية العمل على اعادة تشكيل حياة البشر الروحية سعياً إلى حضارة تليق بشعب كامل لكي يبني ثقافة قادرة على الغاء التعفن والترهل.

وهذا يتطلب، بدءاً، انفتاحاً ذهنياً على مستوى النخبة
يضع نصب عينيه السعي الدؤوب والمتصل من أجل:
1- محاولة العمل على ضخ الحياة من جديد في الطبقة الوسطى وتسهيل سبل نموها وتنشيطها من حيث هي عماد كل حراك اجتماعي نهضوي. هذه الطبقة التي قال عنها يوريبيدس : هي وحدها تحفظ النظام، وتمسك برمق الحياة.
2- العمل على ان يخرج من رحم هذه الطبقة جمهور لديه قابلية استقبال الاعمال الابداعية وتمثلها ونقدها.
3- ولاستيلاد هذا الجمهور لا بد من خطوات عملية وثابتة منها:
أ- اعادة النظر بالنظام التعليمي بحيث تدخل فيه آليات تنمي حاسة التذوق والمعرفة.
ب-انشاء محطة تلفزيونية متخصصة في الفنون السبعة ( فن العمارة والنحت والرسم والمسرح والموسيقى والرقص والسابع السينما) تبث على مدار الساعة وتغطي كل ارجاء العالم العربي.
ج- تعميم الفن المسرحي على حقول النشاط الاجتماعي كافة من مدارس وجامعات ومصانع ونقابات واندية.
د- انشاء مسرح بلدي في كل مدينة عربية والى جانبه مسرح تجريبي.
4- انشاء معاهد مسرحية عالية وحديثة بما في ذلك تحديث البرامج واستقطاب كبار الاساتذة.
5- تشجيع ورعاية المبدعين من كتاب ومخرجين وفرق
تمثيلية.
وما تاج هذا العمود إلا حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية التنقل، وحرية الابداع، والحق في الاختلاف.
اما رسالتنا فما هي إلا أن يملك مسرحنا افكاراً فنية محددة وفرقاً جديرة بان تعتنق هذه الأفكار لغاية الالهام، وهي ان نرى عملنا بعيني متفرج اليوم.

رسالتنا لا بأس أن تكون رسالة غوردن كريغ الملهمة ومثله العليا في الاخلاق التي تدعو إلى التسامي بالمسرح وبجميع المشتغلين فيه.
رسالتنا علينا ان نحب، وعلينا أن نغضب
أن نحب الناس الذين يعانون من الحرب الملتهبة، كما عشناها في لبنان،
أن نحب الذين يذهبون إلى المدارس تحت القصف،
الذين يعاودون بناء بيوتهم،
الذين يرممون منازلهم،
الذين يولدون في الملاجئ،
الذين يقفون في الصف أمام الأفران،
الذين يعملون ويكتبون ويرسمون على ضوء الشمعة،
الذين تهز قلوبهم المدافع والطائرات والصواريخ والسيارات المفخخة...

وعلينا أن نغضب من كل من حال يحول دون أن يكون الانسان انساناً.
وان نغضب على ضيفي الافاق ، وعديمي الاكتراث، والذين يورطون الشعوب بالحروب.
علينا أن نغضب ممن يلغي الانسان
وفي غضبنا هذا يجب ان نكون بلا رحمة.
رسالتنا: أن يطفح عملنا بالمغزى العظيم، إذ نشعر بان الناس بحاجة لاعمالنا

رسالتنا: أن لا نفقد الشجاعة، وبخاصة بعد أن بتنا نلمس بأن ثمة من انتبه إلى المدماك غير المكتمل، واقبل عليه بانهمام، واصدر توجيهاته بانشاء الهيئة العربية للمسرح. وها هو يقف امامنا متنصباً كأرزة أمامنا وأمام الأجيال الطالعة ليقول: "حيَّ على الفلاح".

ها أنا قد سليتكم فتأملوا.
جميل أن نعيش مديداً. جميل ان نبقى يصحة وعافية. جميل أن لا يتهدم هذا البدن، ولا هذه الروح.
جميل أن نتسلى بالمسرح ، لنتأمل بفرح وسرور.

يعقوب الشدراوي