ثلاثةُ قبورٍ كانت كفيلةً، يومها، بإقناعِ صديقٍ قديمٍ للعائلة، ببيعِ بيته، واشتراها. هوَ، اليومَ، مالكٌ لخمسِ عقاراتٍ تكتظُّ فيها البيوت. يؤجّرها. وما زالَ يبيعُ القبور. هذا ما سمَّاهُ يوماً صديقنا: «تفكيراً استراتيجياً».
وُلِدَ وفي فمِهِ ملعقةٌ من ذهبْ. بحثتُ كثيراً عنها ولم أجدْها. قالوا، هو تعبيرٌ مجازيٌّ يعني أنّهُ وُلِدَ ثريّاً عن أبيه. أبوهُ ذاتُهُ الّذي باعَ نصفَ الملعقة، واشترى قبراً من صديقنا القديم، ليدفنَ ولَدَه الّذي قضى بقذيفة. قالوا: «ليسَ كلُّ ما يلمعُ ذهباً».
في مقاربةٍ أو معارضةٍ لغوية، أردتها أن تكونَ أشبهُ بالشّعرية، قلت: «وكذا، ليس كلُّ ما ذهبَ يلمع». اختلَفَ الأصدقاءُ في شرعيّةِ وجودها أصلاً. ووقفوا عندَ تصنيفها. أهيَ معارضةٌ، أمْ موالاةٌ للغة؟! أمّا صديقنا القديم، فبدأ بتحضير القبور لبيعها.
بائعُ البقدونس، صرخَ مستهجناً عندما اعترضتُ على سعر بضاعته قائلاً: «مو شايف الدورار قديش صار؟!! غرام الدهب صار بـ...» تذكّرتُ فوراً أنَ السكوتَ من ذهب.
صرخ بائعُ البقدونس مستهجناً: «مو شايف الدورار قديش صار؟!!»
آثرتُ أن أستغل ارتفاعَ سعره، ومضيتْ. بالمناسبة، صديقنا القديم باعَ، بدوره، البقدونس في حارتنا.
ولأنَّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذكَر، لمْ يكن سعرُ «غرام الذهب» قد جاوزَ ليرةً واحدة، عندما قرّر سعيد حورانية السّكوتَ اعتراضاً على واقعٍ ما. هل كانَ يعلمُ أنَّ سعرَ الذّهب، في سوريا، سيرتفع بشكلٍ جنوني؟! هل هوَ، أيضاً، تفكيرٌ استراتيجي؟! لمْ يتسنَّ لي سؤالُ صديقنا القديم بعد.
الكتابةُ فعلٌ صاخبٌ في جوهره. فعلٌ صاخبٌ في كنْهه ومبْناه. وإن بدا صامتاً في الشّكل والممارسة نظرياً. بكلامٍ أوضح، تكتب دونَ صوتٍ مسموع. لكنك، بذات الوقت، تنشئُ حواراً مع ذاتكَ. مع النص. مع القارئ. حواراً بين النص والقارئ. وبين القرَّاء في مستوى بعيد. هذا الحوار متعدّد المستويات، يخلق فعلَ حياةٍ حقيقياً وصاخباً، و... «متعدّداً». سأختزل الآن لأقول: «الكتابةُ فعلٌ متعدِّد». تخيّل، مع هذا، تعدّداً في الكتّاب. في أنواعِ الكتابةِ. في أشكالها. سوف يتضاعف، حتماً، عدد محاور الحوار ومستوياته، بل وفاعليّته البنائيّة والمنتجة. هذا ما أسمّيه، بتصريحٍ مباشرٍ يشبه الإعلان: «تعدّدية فكريّة». هذه التعدّدية، هي التي سمحت لسعيد حورانية، حتماً، بأن «يقول» أي «يعترض» بفعل الصمت. وأقصد بالصمت هنا: «اللاكتابة». «اللاكتابة»، مع هذه التعدّدية الفكرية، تصبحُ «فعلاً» أيضاً له تأثيره ودوره في البناء. وبصيغة متناسبة مع السّياق، يصبح الصمتُ، في هذه التركيبة، من ذهبٍ حقيقي. الكتابةُ، فقط، بوصفها «فعلاً متعدّداً»، بما تنتجه من فاعليّةٍ فكرية، و«تعدّدية»، هي التي تظهّرُ «الصمتْ». وتعطيه معناهُ، وتجعلُ منه «فعلاً» ذا قيمة. معها فقط، كما كان في فترة ما بعد استقلال سوريا، في الفترة ما بين 1946 إلى حدود 1967. في تلك الفترة، فقط، كان يصح أن يقولوا: «ليس كلُّ ما يلمع ذهباً». أمّا نحن، في هذا الزمن القلق لا نقولُ إلا: «ليس كل ما ذهبَ، يلمع»!
بائع القبور. بائع البقدونس. من ولدَ وفي فمه ملعقة الذهب. مكونات طبيعية، دوماً، ومستمرة عبر تاريخ الأمم. هؤلاء، وغيرهم من المكونات، هم من يشكلون البيئة المنتجة لجميع الفعاليات. والتعددية الفكرية جزء من هذه الفعاليات. ما الذي جعل البيئة في الفترة التي ذكرت، تنتج هذه التعدّدية؟! هذا سؤال أوّل. علاقة التعدّدية الفكرية، بالفعل المنتج والبناء. على نحو ما ذكرت في حالة سعيد حورانية، أيضاً تشكّل بحثاً هاماً وسؤالاً ثانياً، لناحية وجود العلاقة أصلاً، ولناحية تطويرها وتفعيلها. هل الأزمة في الكتّاب والجيل؟! هل الأزمة في البيئة والظرف والزمن؟! هل الأزمة في بائع القبور أو بائع البقدونس؟ كلّها أسئلة تقود إلى بحوث.
ثلاثةُ قبورٍ، و«تفكير استراتيجي»، و«استثمار في الموت»، أمّنت «ملاعق من ذهب» لأبناءِ صديقنا القديم. ألا يصح أنّ ثلاثة أسئلة أو بضعة أسئلة، وتفكيراً استراتيجياً ومنهجياً، مع استثمارٍ في الحياة، ألا يصح معها أن نورثَ لأبنائنا كنزاً حقيقياً يقيهم عوَزَ الصمت؟
سألني صديقنا القديم: «هل هذا مقالٌ في الثقافة؟!». قلت: «ربما!».
* كاتب سوري