القاهرة | سكنت لوحة «الستّ» لأم كلثوم بشعرها الأزرق الزهري مجموعة «غوغنهايم أبو ظبي» منذ 2008، وكانت سبباً في دعوة صاحبها عادل السيوي إلى سلسلة «حوارات الفنون» التي عُقدت منذ فترة مع أربعة فنانين آخرين من علامات الفن المعاصر في مدينة الثقافة الإماراتية. فور عودته من زيارته المكثفة، التقيناه في مرسمه في وسط القاهرة. لم تكن مصادفة دعوة خمسة فنانين عالميين إلى الدورة الرابعة من هذه السلسلة التي أطلقها «غوغنهايم أبو ظبي» بعنوان «حوارات الفنون». لقد بات ذلك تقليداً تحرص عليه مجموعة «غوغنهايم أبو ظبي» في استضافة الفنانين الذين جرى اقتناء أعمال لهم، ليتحاوروا مع الجمهور ويتم تسجيل اللقاء كفيديو ليكون ضمن المادة الوثائقية المتوافرة في المتحف.
والفنانون كانوا الأميركي جيمس روزنكويست، والنحّات الغاني إيل أناتسوي، والصيني فنغ مينجبو، واختتمت الحوارات بلقاء مع الفنانين المصريين يوسف نبيل (1972)، وعادل السيوي (1952).
لم تكن أيضاً مصادفة أن تجمع بين الفنانين الخمسة علاقتهم بالأيقونة الشعبية كل بطريقته، وخصوصاً هذا التقارب بين يوسف نبيل، الذي عُرف بصوره الفوتوغرافية التي يتخذ فيها النجوم كـ «موديل»، ويقدمهم في إطار مغاير تماماًً للصورة التي ألفها الجمهور عنهم، وبين عادل السيوي الذي بدأ منذ عام 2002 مجموعة لوحات سماها «نجوم عمري» وهي بورتريه لمشاهير الفنانين والشخصيات السياسية المصرية، التي لمعت خلال الفترة الممتدة من الأربعينيات حتى السبعينيات من القرن الماضي، هي التي أسهمت في تشكيل وعي الفنان، وأثّرت في وجدانه. وتبلغ مجموعة «نجوم عمري» 85 لوحة، اقتنى «المتحف البريطاني» عام 2007 سبعة أعمال منها لأم كلثوم، وعبد الوهاب، وتحية كاريوكا، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، وأسمهان وفاتن حمامة، كما اقتنى «غوغنهايم أبو ظبي» إحدى اللوحات الأربع التي رسمها السيوي لأم كلثوم، وهي لوحة «الست» التي كانت ضمن معرض أقامه «معهد العالم العربي» في باريس في مناسبة الاحتفالية المئوية لولادة «كوكب الشرق» عام 2008.
بدا أنّ هناك اهتماماً توليه إدارة المجموعة الفنية لـ «غوغنهايم» إزاء ربط الأشكال الشعبية الخاصة بالتاريخ المعاصر، بما يحدث الآن وهنا، كما لو كانت هناك نزعة لتأريخ نوع من الـ «بوب آرت»، أي الفن الشعبي الجماهيري ــ المناقض للفن النخبوي ــ الذي ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي، لكنّه فن شعبي بمفهوم جديد، فتم تخصيص حلقات نقاش بعنوان «الثقافة الشعبية والصورة الوسطية» لتكون محوراً رئيساً في الحوارات مع الفنانين، بمعنى صورة فن الشعبي التي، يجري تناقلها اليوم، وهي ليست كصورته في الماضي التي تبناها آندي وارهوول، ودعاة الـ «بوب آرت» الذين قدموا نقداً للثقافة الاستهلاكية وحاولوا رفع القدسية عن النماذج البطولية والمشاهير، بل رفع الهالة التي تحيط بالفن نفسه وتعتبر العمل الفني شيئاً فريداً ونادراً غير قابل للتكرار، بل ها هي مارلين مونرو تظهر في ألوان الطيف المختلفة كأي سلعة يمكن شراؤها.
هذا الاهتمام من جانب «غوغنهايم» بالفن الشعبي في صورته الجديدة يعضده أيضاً ما تشهده الساحة الفنية من ثورة لفن الغرافيتي في بلدان الربيع العربي ولبنان وفلسطين. هنا بدت لغة الرسوم والكتابات على الجدران أو عبر تقنيات الطباعة السريعة مرادفاً ورديفاً أساسياً للاحتجاجات والثورات في شوارع المدن العربية. وبات الفنانون يتوقون إلى اقتناص هذه اللحظة التي تضيق فيها الفجوة بين المنتج الفني والجمهور ليدخلوا عناصر فن الغرافيتي في معارضهم. وليس أدل على «سطوة» هذا الاتجاه من وصول لوحة الفنان المصري شانت أفديسيان إلى أعلى سعر لفنان عربي على قيد الحياة في قاعة «كريستيز» العالمية في دبي منذ أشهر. قد نجد إجابة عن محاولة تضييق الفجوة بين العمل الفني والمتلقي من خلال مسيرة عادل السيوي الفنية نفسها. بدأ السيوي مشواره منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعدما هجر مهنة الطب للتفرغ للابداع الفني، بمجموعات من اللوحات التي تركز على الهيئة البشرية والوجه الإنساني تحديداً. اعتمدت اللوحات على مصادر غربية وأفريقية ومصرية أصيلة، وتنوعت بين التشخيصية التي تصوّر ملامح لوجوه متخيلة، والوجوه التي تحمل مفردات تاريخها ومحطات من حياتها بصورة تجريدية داخل قسمات الوجه نفسها. وما لبث أن انقلب على هذه الوجوه حين شارف على عامه الخمسين وشعر بحاجة ملحة إلى رواية سنوات عمره بالفرشاة، لكن عن طريق الشخصيات المهمة في حياته. شخصيات أضحكته وأثّرت في الطفل الذي كانه، مثل اسماعيل ياسين وعبد الفتاح القصري، وأخرى قضّت مضجعه في سنوات المراهقة مثل سعاد حسني التي يضحك قائلاً عنها: «كنت أحلم بأن تكون صديقتي ونتنزه معاً». يفسر السيوي هذا التحول والرغبة في التواصل مع الجمهور من خلال العمل الفني قائلاً: «بعدما انتهيت من مرحلة إنجاز وجوه بلا أصحاب، بدأت بتناول المشاهير، كما لو كنت أحاول أن أتقرّب من الناس من خلال شخصيات تشاركنا في التفاعل معها، في حبها أو في تأثيرها فينا معاً، وكما لو كانت هذه النجوم والشخصيات العامة وسيلة غير واعية تجعلني أكثر التحاماً بالناس من حولي».
أما لوحة «الست» التي ملأت الصحف إبان معرض مئوية أم كلثوم في باريس، وآلت اليوم إلى مجموعة «غوغنهايم أبو ظبي»، فكانت محور حديثه في الشريط الوثائقي الذي سجل لقاءه مع جمهور أبو ظبي. غلّف وجهها بغلالة شفيفة مثل الحلم، وبدت عيناها حزينتين. توحّد الفنان مع «الست» وأسقط على ملامحها غضبه من حالة النكران التي أصابت المجتمع تجاه رموزه وتاريخه، بينما شعرها الأزرق يذكّرنا من جديد بآندي وارهوول ونماذجه العجائبية لمارلين مونرو. مع ذلك، يتبرأ السيوي تماماً من تصنيف الـ «بوب آرت» رغم ولعه الشديد بفنانيه. هو لا ينطلق كفناني الـ «بوب آرت» من نقد القيم الاستهلاكية، ولا يأبه كثيراً بتقديم الصورة النمطية والأيقونة الشعبية كما تراها عيون الناس، لكنه على العكس ينطلق من نقطة أكثر ذاتية وأكثر خصوصية لصورة الشخصية كما رآها هو، أو كما تراءت له في عقلية الطفل أو المراهق أو الفنان ــ الطفل واسع الخيال. لم تعنه إعادة تقديم الصورة الكاريكاتورية للفنان اسماعيل ياسين الذي أضحكه كثيراً في طفولته، بل صورته كطفل كبير الحجم. لذا ارتسمت ملامح جادة على قسمات وجهه في مواجهة لوحة من اللوغاريتمات، تحيل على كمّ من التعقيدات يتغلّب عليها المصري البسيط بفطرته السليمة. وحين رسم الفنانة شادية، عبّر عنها من خلال خليط من الأمومة والحسية، وأشار إليها بثمرة فاكهة نادرة. وبدت ماري منيب ملكة الكوميديا في صورة عجائبية كما تراءت له في طفولته بجسدها الوفير، وقد احتضن داخله طيوراً ودواجن. كلّها نماذج تستعصي على التكرار والنمطية، هي صور من الثقافة الشعبية الجمعية، لكنها اصطبغت بروح الفنان وسيرته الذاتية وعالم الحكايات وخضعت لتحليله الاستعادي للتاريخ الثقافي السياسي المصري.



الموعد في 2017

«غوغنهايم» هو المتحف الأميركي العريق الذي سبق أن افتتح فرعين له في البندقية الإيطالية وبيلباو الإسبانية، ثم جاء «غوغنهايم أبو ظبي» ليكون ثالث فرع للمتحف الذي يعنى بالفن الحديث، ويعمل على تنمية الجانب المعرفي والتثقيفي من خلال التركيز على الأعمال الفنية من الشرق الأوسط من فترة الأربعينيات حتى الآن، وهو المتحف الذي يُنتظر أن يفتتح عام 2017.