حين يتحدث الإسرائيليون عن جيشهم ومخابراتهم، يصعب التخلّص من نبرتهم الاستعلائية التي تريد الترويج لبطولاتهم وحسّهم «الإنساني». هم شعب «مسالم» قبل كل شيء، وجد نفسه في موضع «الدفاع عن الذات». هكذا، تضحي أقذر عمليات الموساد مثالاً على ما أراد ميخائيل بار زوهار ونسيم ميشعال إظهاره كفعل بطولي وحق مشروع لدرء الخطر عن الكيان المحتلّ. أمثلة كثيرة يعجّ بها «الموساد ــ أكبر مهام جهاز المخابرات الإسرائيلي». الكتاب الصادر أخيراً بنسخته المعرّبة عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، (صدر أولاً بالعبرية عن «دار يديعوت أحرونوت» عام 2010). قد يجد هذا العمل صدىً واسعاً عند محبي القصص البوليسية؛ إذ استطاع الكاتب والخبير الأمني ميخائيل بار زوهار والصحافي نسيم ميشعال، أن يسطّرا فصول كتابهما بأسلوب تشويقي. لكنّه ليس كذلك لمن سيقرأ أسماء قادة ومقاومين للاحتلال أرداهم الموساد منذ ستة عقود إلى اليوم. عماد مغنية كان أحد هؤلاء. عدو إسرائيل اللدود كان اغتياله من أهم إنجازات الموساد بحسب الكاتبين.
في الفصل التاسع عشر، يكشفان كيف جنّد الموساد لوقت طويل جزءاً مهماً من قدراته البشرية والتقنية لملاحقة مغنية، من الاستحصال على صور من طبيب ألماني أجرى عمليات تجميل لمغنية، وصولاً إلى التأكد من الإشارات التي أفادت باحتمال وجود القائد العسكري لـ«حزب الله» في دمشق بتاريخ 12 شباط (فبراير) 2008 من خلال شبكة واسعة من العملاء، بينهم لبنانيون (منهم العميلان أحمد الحلاق وعلي جراح) الذين زودوا كبار قادة هذا الجهاز بمعلومات مفيدة مهدت لاغتيال «الحاج عماد» في كفرسوسة على أيدي ثلاثة من وكلاء الموساد أتوا «سياحة» إلى سوريا. ومن الشام إلى دبي، حيث يتحدث الكاتبان عن طريقة اغتيال أحد قادة «حماس» هناك محمود المبحوح بتاريخ 19 كانون الثاني (يناير) 2010، رغم محاولتهما غير الموفقة في نفض يدي الموساد من هذه العملية. وفي الأردن، يقرّ الكاتبان بخطأ ارتكبه الموساد، تمثّل في كشف التركيبة الكيميائية لأخطر أنواع السم الذي استخدمته إسرائيل في محاولتها اغتيال خالد مشعل، وكانت ستستخدمه في اغتيالات لاحقة.
أفرد ميخائيل بار زوهار ونسيم ميشعال صفحات لإيران، وسوريا، «حماس» و«حزب الله» بوصفهم «خطراً لا يمكن غض الطرف عنه». إيران، التي تسعى ــ بحسب الكاتبين ــ لأن تصبح قوى نووية يتوعد رئيسها السابق أحمدي نجاد بالموت لإسرائيل، لا تزال الشغل الشاغل للكيان العبري. ولذلك، سنرى أنّ الموساد لم يفوّت فرصة لعرقلة تقدم برنامجها النووي. تارة يجنّد علماء طاقة إيرانيين للعمل لمصلحته، وطوراً يقرّر الدخول في سلسلة اغتيالات شملت مروحة من الخبراء والعلماء في المنشآت النووية كما حصل في الأعوام الماضية. أما سوريا، فيرى الكاتبان أنّها حليف استراتيجي لايران، خاضت تجربة متقدمة بمساعدة إيرانية وكورية شمالية في تطوير الأسلحة، بل سارت بخطى حثيثة لتتمكن من دخول النادي النووي. لكن هذا ما لن تسمح به إسرائيل بعدما وصلتها معلومات عن شروع عدوتها اللدود ببناء مفاعل نووي في منطقة نائية من محافظة دير الزور. هكذا أوكلت مهمة التحقق إلى الموساد الذي «تأكد» من تلك المعلومات عبر تجنيده لأحد الخبراء السوريين المشرفين على عملية البناء، ثم من خلال صور الأقمار الصناعية التي زودته بها الـ«سي. آي. إيه» إلى أن أمرت تل أبيب سلاحها الجوي بالتعاون مع فرقة كوماندوس بتدمير ذلك «المفاعل» عام 2007. لم تقف إسرائيل هنا. قررت تتبع المسؤولين العسكريين ممن لهم علاقة مباشرة بهذا النشاط النووي السري. وقع الاختيار بحسب الكتاب على اللواء محمد سليمان الذي أوكلت مهمة اغتياله إلى اثنين من قناصة وحدة الكوماندوس البحرية المتمركزين على شاطئ طرطوس على بعد 150 ياردة من شرفة منزله عام 2010. على أي حال، ليست هذه آخر العمليات التي نفذها وسينفّذها الموساد. لكن إلى أي مدى يمكن الوثوق بشهادات رؤساء الموساد وبعض العاملين فيه؟ إذا افترضنا صحة المعلومات في الكتاب، فإنّ بعض الفصول تفضح هشاشة الأمن وسذاجة القيادتين السياسية والعسكرية في الدول العربية، كقصة العميل إيلي كوهين الذي صادق قادة عسكريين في سوريا، إلى أشرف مروان صهر جمال عبد الناصر ثم المؤتمن على الملفات السرية لأنور السادات، فضلاً عن تعاون زعماء عرب راحلين مع إسرائيل، ومنهم ملك المغرب الحسن الثاني الذي بنى علاقات مع الكيان العبري بعدما طلب مساعدته في ملاحقة معارضيه الفارين إلى الخارج واغتيالهم. قدّم له الموساد الهدية الأولى: اغتيال المهدي بن بركة.