في صلب «سؤال المصير» الذي يجتاح مصر الآن، تخفت حكايات تناقلتها الألسن وصوّرتها الكاميرات عن طقوس المعتصمين في «رابعة العدوية». وسط ارتفاع وتيرة العنف في بؤر عديدة في مصر، ننتحي جانباً مع محاولة رصد التحولات الخطابية والفنية في هذا الكوكب العامر بالغرائب والأعاجيب.
في الحرب «المقدسة» التي يخوضها الإخوان لفرض الشرعية والتسامح بقوة السلاح، تقف تفاصيلهم الشخصية حائلاً دون قبول الشارع المصري لهم، إذ إنّ الاعتصام الكائن في «رابعة العدوية» بادر في أيامه الأولى إلى رفع شعارات الإخوان المسلمين، وارتفعت أصوات أناشيدهم مثل نشيد «لبيك إسلام البطولة، كلّنا نفدي الحمى». بقليل من البحث، نكتشف أنّ النشيد مأخوذ نصّاً ولحناً عن النشيد القومي العروبي «لبيك يا علم العروبة». الهتافات التي تصدرت مشهدهم انحصرت في إطلاق الوعيد ضد عبد الفتاح السيسي والدفاع عن الشرعية و«الشعب يريد تطبيق شرع الله».
«الشعب»... مفردة تغيّر موقعها الخطابي انطلاقاً من إيديولوجيات مختلفة، وتوظيف سياسي يصل إلى التناقض الكامل. الفصائل السياسية والسلطات المتعاقبة (مجلس عسكري ثم إخوان ثم جيش) استخدمت تلك الكلمة، وحاولت توظيفها بما يعطي الشرعية لها. يقول شريف يونس في كتابه «نداء الشعب ـــ تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية»: «ظلت مقولة «الشعب»، أي اسمه، هي المحور الذي تدور وتتولد حولها المقولات الإيديولوجية». ومع تمركز الإخوان في «رابعة» وتعالي هتافات تنادي باسم الشعب، تساءل رجل الشارع البسيط: أي شعب؟!
طقوس الإخوان داخل كوكبهم العجيب نفّرت الرأي العام المصري منهم أكثر. انتصار «لهوية إخوانية» ليست إسلامية تماماً، والغناء لأستاذية العالم كما تصوّرها حسن البنا. يعيش الأفراد هناك جاهليتهم الإسلامية، والفصل بين الرجال والنساء قسري وملزم. لا عجب أن شائعة مثل شقق نكاح الجهاد (شائعة تفيد عن وجود شقق للمعاشرة خصّصها الإخوان لأفرادهم بغية قضاء الخلوة الشرعية) لاقت رواجاً وتصديقاً كبيرين في الشارع المصري. إنه الانفصال التام والعزلة النفسية غير الواعية عن المجتمع المصري، بينما كان يشاهد لفيفاً من الإخوان يصدحون معاً بنشيد «سنخوض معاركنا معهم»، تساءل أحد المواطنين المصريين «ازاي دول مصريين وبيغنوا أغنية ما حدش فينا يعرفها؟».
لكن بعد المجزرة التي نفذها الجيش ضد الإخوان خلال واقعة «الحرس الجمهوري» في تموز (يوليو) الماضي، تغيّرت الصورة الإخوانية وتغيّر الخطاب، فتبنّى مظلومية اعتاد الإخوان تصديرها. والأهم من كل ذلك تغيّر شكل المقاومة التي اتخذت هذه المرة طابعاً مصرياً شبيهاً بالذي كان يحدث خلال اعتصامات عامين ونصف العام. أراد الإخوان تغيير تلك الصورة التي تجمع الإسلاميين في بقعة واحدة أشبه «بقندهار». هكذا، بدأت الأغنيات الوطنية تعلو بدلاً من أناشيدهم الخاصة. «يا حبيبتي يا مصر» لشادية صارت خلفية لأحاديث المنصة، وبدأت وجوه نسائية ترتدي ملابس متخففة من الحجاب تظهر كثيراً على المنصة، توازياً مع الشعارات نفسها التي استخدمت طوال عامين على أيدي «خصومهم» مثل «اشهد يا محمد محمود كانوا ديابة وكنا أسود». اللغة نفسها اختلفت من استشهادات بالقرآن والسنّة في أحاديث المنصة إلى العامية ثم الانكليزية، محاولين استدرار عطف الرأي العام
العالمي.
لا يقف الأمر عند هذا التلفيق الهوياتي. التحولات في الطقوس من إسلامية إخوانية صرفة إلى مصرية، يفكك بنية الحداثوية والسلطوية الإسلامية، ويوقع الإخوان/ الإسلام السياسي في سؤال هوياتي إيديولوجي في ظاهره، وسؤال وجودي في معناه العميق. يقع الإخوان الآن تحت طائلة تسارع الأحداث، ومحاولة خلق حرب أهلية تستعر معها أسئلة الهوية والمواطنة وتؤجج الشارع، ما يعطيهم وجوداً فاعلاً في الشارع قد ينتهي بهم إلى المشاركة في السلطة مرة ثانية. لكن العداوة المجتمعية ضدهم تزيد باطراد، حتى مع استعارة خطاب الثورة وهتافاتها، ومع مظلوميتهم التي يجوبون بها سفارات العالم. الشارع المصري شاهد على طقوس التحولات في «كوكب رابعة»، لن تنطلي عليه الخدعة.