لم يعد يوسف في الجُبّ، لقد شرّع جناحَي حريته لتسمو به عالياً، عالياً، إلى فضاء الحرية، الحرية المنبعثة من داخله التي لا تستطيع الجدران أن تحدّها مهما بلغ تحصينها. خرج يوسف من الجب، لم يخرجه تجّار عابرون، بل أخرجه جناحا حريته اللذان عمل طوال عمره على تقويتهما حتى باتا يظللان محيطه، ويمنحان السكينة لمن حوله. خرج يوسف من الجُبّ حراً، لا كما خرج سميّه عبداً ليباع في سوق النخاسة، ولم ينقذه من محبسه تعبير منام.
خرج يوسف مرفوع الرأس، تنبض كل ذرة في كيانه بحريته التي راكم مفرداتها على مدى عمره إنساناً وفناناً ومناضلاً. خرج يوسف الذي شعر جميع من عرفوه بشخصه أو بعمله أو بصدقيته، بنقص في الأوكسجين في فضاء دمشق، بل في فضاء سوريا. لقد كان إحدى الرئات القليلة التي ظل الوطن يتنفس عبرها هواءً نقياً غير ملوثٍ بسموم الاستبداد ونظامه القمعي، أو بالنفط وأمواله وأجنداته، أو بالطاقة البديلة للفوضى الخلاقة، أو بالنبت الشيطاني لفقهاء الظلام وكتائبهم، أو حتى بالروائح المنبعثة من الليبراليين الجدد الذين تحالفوا مع كل هؤلاء وأعلنوها دعوة مفتوحة لليبراليين القدامى للتدخل في سوريا مباشرة، أو مداورة عبر جمعيات يسمونها «غير حكومية». ولأنه كذلك، صمت هؤلاء على تعدد مشاربهم صمت القبور، بل استهجن بعضهم الحملة المطالبة بحريته التي أعلنها مناصرو الحرية الحقيقيون الذين يعملون من أجل وطن ديموقراطي مدني يساوي بين أبنائه جميعاً، بغض النظر عن الجنس أو الإثنية أو المعتقد، فكرياً كان أو دينياً أو مذهبياً، وطن لا مكان فيه للاستغلال والمحسوبية، وطن يسعى إلى الخروج من التخلف ليعيش عصره ويسهم فيه، وانضم إليهم مناصرو الحرية في كل مكان.
خرج يوسف لينشر الأمل والتفاؤل كما كان دأبه دوماً، خرج ليؤكد أنّ الفنان الحقّ هو ذلك الأمين لا على تراث شعبه وماضي إنسانيته فحسب، بل الأمين على حاضره الساعي إلى بناء مستقبله، والعامل على أن ينال حريته واستقلاله ليستطيع انتزاع مكانته بين شعوب الأرض بحاضره الحي، وليكون قدوة ومثالاً نابضاً لأولئك المبدعين الشباب الذين طالما تمّ استبعادهم من خريطة المبدعين لأنهم ليسوا من أصحاب الثقة، فأحبط بعضهم أو انكفأ، حتى بداية الحراك الثوري الذي ألهب مشاعرهم فعادوا للمشاركة عبر صفحة الفن والحرية التي كان يوسف من أبرز المشاركين في تأسيسها.
يوسف معروف بخصاله هذه حتى لخصومه السياسيين الذين مضوا في طريق ضالة مضللة. طريق تحاول أخذ الحراك الثوري إلى المربعات التي أراد نظام الاستبداد نقل الصراع إليها ليشيع القتل والدمار والخراب في مدن الوطن وريفه، فكانوا هم من ساعدوه على ذلك، وكانوا هم من ساعدوه على تغييب صوت الشعب الذي علا في الوطن على مدى شهور، قبل أن يشكلوا مجلسهم وما تلاه من تشكيلات وكتائب! خرج يوسف عبدلكي صديقي الذي أعرفه يقيناً منذ 42 سنة، هي ذاتها سنوات نظام القمع والاستبداد، هي ذاتها التي عشناها في مواجهته بالفن أو الممارسة أو السلوك. اعتقل في المرّة الأولى ونجوت، ثم خرج ليكمل دراسته، ويضطر إلى البقاء بعد ذلك لعدم تجديد جواز سفره. عاش كلانا في منفاه الاضطراري، لكننا كنا معاً دوماً على بعد المسافات بيننا، في الوقت الذي كان فيه نظام الاستبداد يلاحق ويعتقل لسنوات طويلة ليس أعضاء رابطة العمل الشيوعي في سوريا (حزب العمل الشيوعي لاحقاً) فقط، بل كل من قرأ ولو منشوراً صادراً عنه، وكان يوسف دوماً، داخل الوطن وخارجه، شعلة متقدة لا تخبو على طريق الحرية، حرية الوطن والإنسان والفن، الحرية المسؤولة، لا حرية الفوضى الخلاقة وأنصارها، لا حرية الخراب ومحاكاة أخلاق الجلاد.
* فنان سوري