دمشق - خرج يوسف عبدلكي إلى الحرية بعدما قرّرت السلطات إخلاء سبيله. شهر وثلاثة أيام في المعتقل، لم نعرف خلالها ما هي تهمته حقّاً، فالتشكيلي السوري واحد من قلة كانوا يرفعون راية السلميّة، ولطالما حذّر من عسكرة الاحتجاجات. عاد إلى محترفه في حي ساروجة في دمشق القديمة.
أصدقاء كثر سمعوا بالخبر، فانتظروه أمام الباب. «تأخر يوسف أليس كذلك؟» يجيب آخر «سأتصل على رقم جوّاله». الرقم المطلوب خارج الخدمة، اتصال آخر بالموكب الذي رافقه من القصر العدلي يفيد بأنّه سيتأخر قليلاً، فقد ذهب إلى الحلّاق. لا نعلم من كان يُطعم الحمام الذي يسرح في بهو المحترف، لكنه بالتأكيد فكّر في الأمر خلال فترة غيابه، وربما أنجز لوحات جديدة في ذهنه خلال وجوده في عتمة المعتقل، أو أكمل لوحة ناقصة كانت تحتاج إلى لمسة هنا، وأخرى هناك، قبل أن يضع توقيعه عليها. ولعله فتّش جيوبه، بحثاً عن قلم الفحم، ليكمل متواليته الغرافيكية التي كان قد بدأ العمل فيها قبل أشهرٍ طويلة. وبالتأكيد، نظراً إلى الضجر، قد عقد مقارنة بين معتقل الثمانينيات، ومعتقل الألفية الثالثة، وتحسّس رأسه، بحثاً عن كعب البندقية الذي استعمله أحدهم لإدخاله إلى السيارة التي كانت تنتظره في الشارع. الحكاية التي رواها أكثر من مرّة كنوع من الذكريات القديمة التي لم يتصوّر أنها ستتكّرر.
وكان عشرات المحامين والأصدقاء قد توجهوا ظهر أمس إلى القصر العدلي في دمشق، بعد تسرّب خبر تحويل عبدلكي إلى القضاء لمطالبة النائب العام بإخلاء سبيله. وفي نحو الرابعة بعد الظهر، خرج عبدلكي حرّاً، بقميص أحمر ووجه هزيل، ذقن طويلة، فاقداً كيلوغرامات عدة، مما جعل صديقه النحّات عاصم الباشا يعلّق بقوله «كم وجبة فتة، ستعوض ما فقدته من وزنك».
في محترف عبدلكي، كان الأصدقاء يقومون بتنظيف الدار العتيقة بالماء والضحكات، بينما حمائمه تنتظر قدومه. الكل يستعد لاستقباله وحسن خليفة أحد أصدقائه المقربين لا يزال يشطف أرض المحترف مع احدى الصديقات. كلما كانت تصدر حركة عند باب المحترف، كان الحاضرون يلتفتون. في اللحظة التي وضع يوسف مفتاحه في الباب، وقف الجميع ينتظر دخوله ليضمه ويقبّله. ها هو الآن وقد تخلّص من ذقنه الطويلة. ورغم أنه خسر حوالي 14 كيلوغراماً، إلا أنّ الضحكة لم تفارق وجهه وعينيه. بقميصه الأحمر الذي اعتقل به، سلّم عبدلكي علينا بكل ودّ وآمال، جلس قليلاً ثم قال للجميع بأنّ أول سؤال طرحه عليه المحقّق بنبرة ساخرة كان: «طمنّا شو أخبار الدكتور عبد العزيز الخيّر؟». ضحك يوسف قبل أن يقول بأنّه أجابه هو أيضاً بشكل ساخر: «يمكن أخذوه جبهة النصرة».
بعينيه، راح الفنان يتفقّد تفاصيل محترفه، يضحك قليلاً ويتذكر تفاصيل موجعة عن أحوال الاعتقال الصعبة مقارنة بالمعاملة التي تلقّاها هو نظراً إلى موقعه ومكانته. أحياناً، كان يجيب على هاتف ويطمئن المتصلين إلى أن صحته ممتازة قبل أن يغوص في تفاصيل المعتقل حين أوقفه فرع الأمن العسكري في طرطوس ثم بقي هناك حوالي 25 يوماً لينقل في ما بعد إلى «فرع الخطيب» في دمشق التابع لأمن الدولة. قضى معظم فترة توقيفه هناك، وشاهد «العنصرية على أصولها حتى في التعذيب» كما يقول.
في حديث خاص لـ «الأخبار»، يقول عبدلكي: «اعتقلت على خلفية انتمائي إلى حزب العمل الشيوعي وهيئة التنسيق. أعتقد أنّ هذا الاعتقال كان نوعاً من العقوبة بسبب مواقفي السياسية على مدى سنوات أكثر ما هو متعلق بحدث راهن.» وأكّد أنّه «لم يتعرض لأي أذى جسدي أو معنوي». لكنّه توقّف مطوّلاً عند ظروف المعتقلين الآخرين، مشيراً إلى أنّ «شروط الاعتقال التي تطال آلاف المعتقلين أكثر من سيئة. شروط غير إنسانية تعود إلى العصور الوسطى. لا علاقة لها بسجون عالم اليوم، من حيث الأمكنة والتهوية والتعذيب والعناية الصحية. إنّها سجون من عصر آخر!»
وعن قرار بقائه في سوريا، أجاب بأنّه لا يطرح أساساً هذا الموضوع على نفسه، مشدداً: «أنا باقٍ في بلدي مهما كانت ظروفه صعبة وكارثية، أنا مكاني هنا، وأعتقد أنه مكان كل مواطن سوري». كما شكر عبدلكي جميع من وقف إلى جانبه في معتقله، قائلاً: «أحب أن أشكر كل الأهل والأصدقاء والإعلاميين وكل الهيئات السياسية وغير السياسية، الذين وقفوا معي في هذه المحنة، أحب أن أحيّيهم من قلبي، وكنت أتمنّى لو أنّني أتمتع بقدرات خارقة حتى أطوف عليهم واحداً واحداً وأقبلهم من جبينهم. لكن للأسف، لا أملك هذه القدرات، بل أحملها لهم في قلبي». وختم: «أعتقد أن مسألة توقيفي ليست إلا نقطة صغيرة في نضال الشعب السوري لاسترداد حقوقه في العيش الكريم ولإرساء العدالة والدولة الديموقراطية».