«لقد مرّ شهر ونحن ننتظر» العبارة بالعربيّة والانكليزيّة، مكتوبة بالأبيض على خلفيّة سوداء، ما زالت على صفحة يوسف عبدلكي. كل يوم كنّا ننتظر الخبر السعيد، ونبحث عن الضوء الذي يختبئ حتماً خلف جدار الدخان الكثيف، فيخيّل إلينا أننا نراه. نرى الضوء، نرى يوسف خلف القضبان كأنّه في أحد رسومه، نرى الحلم الذي يراوده هو ورفاقه بسوريا حرّة لكلّ أبنائها، ولكلّ العرب. خلال شهر الانتظار الذي استغرق دهراً، كنّا نستحضر ذكريات الزمن السعيد وأحلام التغيير القديمة:
الصور، الوجوه، الأماكن، الكلمات، المبادئ، الأسماء… وغير ذلك من تعاويذ تصلح لطرد الأفكار السوداء، وتشعرنا أن الأشياء ستبقى ممكنة رغم الخراب العظيم. المناضلون الأصيلون على ندرتهم في هذا الزمن المخرّب، مثل الفنانين الكبار، ويوسف يجمع بين الإثنين، يجلعوننا نؤمن ـــ وتلك خطورتهم ـــ بأن الأيّام الأفضل مقبلة حتّى في أحلك الأوقات. والشعب السوري يعيش حاليّاً، ونحن معه، أحلك الأوقات. لا وقت للفرح والاحتفال وسط الجنازة الكبرى. لكن الأمل ما زال ممكناً، يوسف استعاد حريّته. وهو يعرف جيّداً، أنّه لن يكون حرّاً تماماً قبل أن يستعيد شعبه الوحدة والكرامة والحريّة، وتزاح عن صدره صخرة الحرب الأهليّة.
منذ ١٨ تمّوز (يونيو)، كل يوم كان يساورنا القلق أيضاً، أمام واقع معقّد تحكمه المفارقات، وتتداخل في نسيجه أنبل الأفكار والتطلّعات وأحقر المشاريع والوسائل. لذا بدا الشهر طويلاً، طويلاً جدّاً. يوسف عبدلكي طرح علينا أسئلة وتحديات كثيرة، من سجنه، حول دور كلّ منا في دوّامة الجنون الدموي، حول معنى الشجاعة والنزاهة والتضحية والشهادة للحقّ. «شهر ونحن ننتظر». لم يجد الرفاق الوقت ليلة أمس، لسحب المستطيل الأسود من الفايسبوك. أضيفت (ثم أزيلت) صورة جديدة ليوسف محاطاً بالأحبّة، وقد استعاد حريّته. بدا هزيلاً، وشاحباً، ومتعباً، إنما قويّاً ومتماسكاً. ضحك الزميل السوري عندما رآنا مصدومين أمام شاشة الكمبيوتر، لا نكاد نتعرّف إليه في الصورة. «يا حبيبي شهر بين «فرع الأمن السياسي» في طرطوس، و«فرع الخطيب» التابع لأمن الدولة في دمشق… ماذا تتصوّرون يعني؟». لكنّه انتصر. يوسف انتصر لأنّه يعرف أنّه صاحب الحق، وأن ضميره مرتاح. هو الذي اختار البقاء في سوريا، متنازلاً عن أضواء باريس وامتيازاتها حيث كان بوسعه أن يلعب دور «الثوري» بين المهرجانات والمؤتمرات (من دون قصد تعميم هذه الصورة الكاريكاتوريّة طبعاً!). يوسف انتصر لأنّه الوجه الناصع لانتفاضة شرعيّة من أجل الكرامة، لم يوقّع عقداً مع الشيطان: لم يمل عليه «قواد» مواقفه، ولم يموّله ظلامي، ولم تحرّكه عصبيّة طائفيّة أو عرقيّة، ولم يسلّحه أمير انحطاط، ولم تسهّل أموره جهة غربيّة، ولم يلتق اسرائيليين في السر أو العلن. يوسف في السياسة مثله في الفن، باحث عن النقاء. رسم القهر والحداد والغضب، صنع شموساً متوهّجة بألوان الفحم، رسم «القديس مار يوحنا فم الذهب مسجّىً في جامع الحسن، في حيّ الميدان بدمشق»… في انتظار قيامة شعبه. لذا يخاف الحاكم، مهما كان بطشه، حين يوجّه إليه الفنّان اصبعه النورانيّة. ونحن نتمسّك به أيقونة وذخيرة. حين تضيق الآفاق، وتقلّ الخيارات بين السيئ والأسوأ، نختار حزب يوسف عبدلكي، حزب الناس. يوسف عبدلكي يجسّد حلمنا بعالم عربي أكثر عدالة وتمثيلاً للشعوب وتداولاً للسلطة واحتراماً للانسان. هذا الحلم لن يسرقه السماسرة ولن يقوى عليه الطاغية. لقد عاد يوسف عبدلكي إلى محترفه في ساروجة. اليوم خمر… رغم كل شيء. الحرية لعبد العزيز الخيّر ورفاقه، الحرية لكل المعتقلين في السجن العربي الكبير.