لا شك في أنّ تجربة كريستيان غازي الإنسانيّة والسينمائيّة هما اللتان تستحقان التوقف عندها، نظراً إلى معاناة الرجل خلال حياته منذ الطفولة. الإعلامي والسينمائي الذي خسره الفن أمس، ولد في أنطاكيا ثم وصل إلى لبنان، ليلتحق بالمدرسة اليسوعية في بيروت التي كانت تمنع طلابها الكلام باللغة العربيّة، مروراً بالمراهقة عندما بدأ تأثره بالقضية الفلسطينية، إذ كان والده قائد الجبهة الجنوبية في الجيش اللبناني.
بعدها دخل جامعة الـ«ألبا» ليدرس الموسيقى تأليفاً وكتابة، وسرعان ما توجّه إلى الإخراج السينمائي، فجال على المدارس السينمائية بين ميونيخ وفرنسا وروسيا، وطبعاً تجربته السينمائيّة مع مجموعة من الأفلام الروائيّة والوثائقيّة، لكن لسوء حظه، تعرّضت أعماله للحرق أمام «تلفزيون لبنان» وفي زمن سيطرة الأحزاب اللبنانيّة خلال الحرب الأهليّة. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل تجربته الإذاعية الطويلة التي تشكّل خطاً مهمّاً في تاريخه الإعلامي. وهذه الخطوات توزعت بين إذاعة «صوت لبنان العربي» (1983)، حيث تسلّم نشراتها الفرنسية والإنكليزية كجائزة ترضية، بعدما تعرّض للضرب على أيدي «المرابطون»، ثم انتقل إلى «صوت الشعب».
تعد تجربته في «صوت الشعب» (1985) الأطول، حيث أمضى عشر سنوات تقريباً مديراً للنشرة الفرنسية فيها. كانت طموحات الحزب الشيوعي في منتصف الثمانينيات تأسيس إذاعة شاملة ومنوعة، وشارك غازي الفريق الإعلامي في الأفكار وإبداء الملاحظات السلسة والبسيطة. هكذا، تعرف المدير العام السابق للإذاعة حنّا صالح إليه. يراه الأخير شريك مرحلة مهمّة من تاريخ «صوت الشعب» أيام العز، لافتاً إلى أنّ «الإعلامي طوني فرنسيس اقترح أن ينضم كريستيان إلى الإذاعة للإفادة من تجربته». ويضيف صالح قائلاً «أردنا عند بدء بث تلفزيون «الجديد» في عام 1990 أن ينضم إليه للإفادة من خبراته على المستوى الفني والإخراجي، فشارك في الجلسات التخطيطية، لكن الظروف حالت في ما بعد دون انضمامه إلى المحطة».
ويتفق الإعلامي طانيوس دعيبس الذي تسلم إدارة الإذاعة لاحقاً على تميّز غازي، وحضوره القوي على المستوى الفني والثقافي والسينمائي. يرى أن «امتلاكه الجيد للغة الفرنسيّة جعل الإذاعة تستفيد منه أكثر من إعداد النشرة الفرنسية، حيث كان يبدي رأيه في ما تبثه من أغنيات أجنبية ويسهم في انتقاء البرنامج الموسيقي». يعتبره دعيبس شخصيّة خاصة، «تشعر بأنه ينتمي إلى غير زمن، خارج من الأساطير والقصص الخياليّة. هو مثقف ومتشرّد في آن واحد، والتشرد هو إحدى سماته التي يرغب في إبرازها، كما أنه كان متجرداً من تفاصيل البهرجة للحياة اليومية، وحمل مرارة في نفسه بسبب طغيان التسطيح على العمل الفني آنذاك». يضيف دعيبس أنّ «غازي كان فناناً، لكن الظروف ظلمته ولم تسمح بأن يظهر كم هو فنان حقيقي، بسبب موقفه الراديكالي الرافض للفن السائد وبسبب رفضه المزاوجة بين المال والإبداع».