الفصل الأخير من مصرع: محمد العبدالله | بدأ محمد العبدالله (مواليد الخيام 1946 ــ 2016) شاعراً بإيقاعات شرسة ومعجم فيه نوع من الهجوم على اللغة والموضوع والصور والاستعارات. الشاعر الذي اقتحم المشهد الشعري في سبعينيات القرن الماضي بقصيدته الشهيرة «بيروت» التي حازت الجائزة الأولى في المهرجان الذي كانت تنظمه كلية التربية آنذاك، تحول بسرعة إلى نجم شعري قادم من الجنوب كي يخلط معجمه وموهبته بفضاء العاصمة ومختبرها الحداثي. ولعلّ الصورة الأدق أن محمد العبدالله كان يصطدم بالمدينة، ويصدمها في الوقت نفسه. ثم جاءت مجموعته الأولى «رسائل الوحشة» (1979) لتكرّس اسمه في الصف الأول لجيلٍ شعري كان يتكون في تلك السنوات الذهبية، وشكل هؤلاء ما جرى تسميته لاحقاً «شعراء الجنوب»، لكن التسمية ضاقت على تجاربهم الفردية، وذهب كل واحد في جهة، وإن ظل مصطلح «الجنوب» يلمع كبقايا جمر في رماد ذاك الزمن.
«رسائل الوحشة» تحولت إلى واحدة من أيقونات شعر السبعينيات اللبناني والعربي

كتب محمد العبدالله قصيدة تفعيلة عالية النبرة وصاخبة الإيقاعات، لكنه برع في جعل هذا الإيقاع معفياً من التهويم البلاغي والتفجعات العاطفية، وبرع في جعل جملته الموقّعة لا تقف ضد المعنى ولا تؤذي حركة الصور وتدفقها. براعةٌ جعلت تنقّله لاحقاً بين الوزن والنثر أمراً ميسوراً وسلساً، فكتب قصيدة تفعيلة قائمة على علاقات النثر، وكتب نثراً شبه صافٍ أيضاً، بل إن باكورته نفسها احتوت كل ذلك تقريباً، وحضر فيها الأداء المسرحي والسردي، وخصوصاً في القصيدة الافتتاحية الشهيرة «اعترافات دونكيشوت»، بينما حضر السيد «س» في قصيدة «فاصل من سكْرة السيد س»، وستظهر لاحقاً في العديد من مؤلفاته التالية، إلى درجة أن الوصف تحول إلى لقب محببٍ له. كأن محمد العبدالله وضع في باكورته ترميزات مستقبلية وخرائط أساسية لما سيحضر ويتطور لاحقاً في قصائده ونصوصه. كأنه بدأ ناضجاً ومحمولاً على لغة ومعجم ونبرة خاصة، وهي نبرة جعلت الشاعر محمد علي شمس الدين يقول عنه إنه «هَلْهَلَ» الشعر الحديث في حقبته، كما فعل سلفه الشاعر المهلهل الزير سالم في العصر الجاهلي. ولعل هذا يتطابق بطريقة ما مع فكرة أن الراحل أصدر مجموعته الثانية «بعد ظهر نبيذٍ أحمر... بعد ظهر خطأ كبير» (1981) التي بدا عنوانها الغريب إشارة أخرى إلى صوت شعري متفرد يمكنه أن «يُهلهل» نصه الخاص في نصوص متعددة، فيكتب ما يشبه السيرة المتخيلة، ويكتب قصائد منضبطة ومكتنزة، ويسترخي في مقاطع أخرى تحتمل الحوار والإنشاد والمشهدية. لقد صنع الشاعر هذا الخليط من دون أن يضحّي بشعريته، أو لنقل إنه خاطر بهذه الشعرية من دون أن يكترث بالنتائج، مراهناً في ذلك على ندّيته مع اللغة وحواره اللدود معها، وعلى سخريته اللطيفة واشتقاقاته الخارجة عن السياق العام.
كتب محمد العبدالله «بيانه الشعري» في «رسائل الوحشة»، و«كسر» هذا البيان في «جموع تكسير» (1983). كان يبدو كمن يركض في اللغة «بلا هوادة» (2010)، بل إنه كتب القصة القصيرة، ولا نزال نتذكر مجموعتيه الجميلتين «البيجاما المقلمة»، و«لحم السعادة»، وجمع زاويته الأسبوعية «كيفما اتفق» في كتابٍ حمل العنوان نفسه. كان بإمكانه أن يكتب «مزحة» شعرية مثل: «- ماذا فعلت في عيد الحب؟/ - لا شيء/ - لماذا؟/ - لقد ذهب الحب/ - إلى أين ذهب الحب؟/ - ذهب الحب إلى القصيدة/ - لماذا ذهب الحب إلى القصيدة؟/ - منعاً لالتقاء الساكنين»، وكان بإمكانه أن يكتب قصيدة لا تزال طازجة وصافية حتى اليوم مثل: «يدكِ على الطاولة/ أو يدك على الحقيبة/ أو يدكِ تشرح الموضوع/ أو يدكِ الحائرة/ هل تسمعين أنتِ أيضاً مثل هذه الموسيقى؟».
المكونات النثرية، والشديدة النثرية، ظلت حاضرة في نتاجه الشعري والسردي. ربما يفضل البعض «قديم» محمد العبدالله، وخصوصاً باكورته «رسائل الوحشة» التي تحولت إلى واحدة من أيقونات شعر السبعينيات اللبناني والعربي، وأفردت لصاحبها مكاناً على حدة في خريطة الشعر العربي. «الوحشة» على أي حال لازمت محمد العبدالله في شعره وفي حياته الشخصية أيضاً، وبدا في «جديده» الشعري والسردي ميالاً إلى الاستغراق في عادية الوقائع وتأمل مشهديات الحياة اليومية والسخرية من كل شيء. كان يفعل ذلك من وجهة نظر شخص غاضب يرفع نخب حياة سابقة كان فيها أشد فتوةً وشغفاً وانقضاضاً على العيش واللغة والشعر. في دواوين أحدث له مثل «حال الحور» (2005) و«زهرة الصبار» (2008)، بدا أنه يستعيد شيئاً من «عافيته» القديمة، وصخبه البلاغي ولغته الاقتحامية، ولكنه بدا ــ في الوقت نفسه ــ ذلك الشخص المستوحش الذي ظهر في باكورته المدهشة. إنه الشاعر الذي تحدث عن «الدم الزراعي الذي ينزف عشباً أخيراً»، وهو الشاعر الذي كتب سيناريوات وقصصاً ونصوصاً مفتوحة غارقة في خصوصيتها النثرية.
كان محمد العبدالله ابن مرحلة لم تلحق به في سنواته الأخيرة. انكفأ الشاعر ذو القامة الضخمة داخل جسده الذي راح يَنْحَلُ ويضعف مع الكهولة والمرض. استسلم الشاعر أكثر فأكثر لوحشته الأولى. لقد صحا «السيد س» من سَكْرته مراراً، ورفع إصبعه الوسطى للحياة الجاحدة، لكنه أمس وضع رأسه على وسادة الغياب، واستراح.

تقام مراسم وداع الراحل اليوم في بلدته الخيام