من برلين حيث يقضي معظم وقته، أرسل إلينا هيثم الورداني مجموعته القصصية «حلم يقظة» (ميريت). وفي سياق المعلومات التي يشترط البريد الألماني توافرها لقبول الطرد، كتب على الظرف في خانة «المحتوى»: «كتاب»، وفي خانة «القيمة»: «يمكن لكتاب أن يكون قيّماً جدّاً». يختبر هيثم روح الفكاهة لدى الـ«دويتشه بوست» تماماً كما تقف مينو فجأة في مكتب التوظيف وتشرع في الغناء ثمّ تجلس كأنّ شيئاً لم يكن. في هذه القصص التسع، شخصيات تعيش في عالمنا الحاضر، عالم المؤسّسات الكبرى والأزمة الاقتصادية، والهجرة إلى الشمال والحرب على الإرهاب. تختبر هذه الشخصيات ما بقي من حياة وسط الآلات الضخمة المتحكّمة بحياتها، وما بقي من وجود في عقولها وأجسادها. إنّها شخصيات واقعية وغير واقعية، مسالمة وثائرة، مهاجرة ومقيمة، تعيش كلّها في برلين، مدينة تلخّص العالم، ويلخّصها النصّ الأوّل من المجموعة ببعض اللقطات: كتابات على الجدار، جسر حجري قديم، أبنية تُهدَّم وأخرى تُشيَّد، سنترال للاتّصالات الخارجية، مقهى شرقيّ، صالة ترانزيت... هذه الأمكنة تُعلن محاور الكتاب، وتحضن شخصياته، وتربط بين قصصه.
يلعب السيّد فهمي وحبيبته العابرة إستير أدواراً في خلفيات مشاهد الأفلام، ويتودّعان في غرفة فارغة. تدوّن بي أحلام اليقظة التي تراودها في المكتب، لجمعها في كتاب مع صور يلتقطها زميلها جرجس عن تطوّر شبكة العنكبوت خارج النافذة، فيما الشركة تصرف موظّفيها تدريجاً. يُعدّ ثلاثة أصدقاء لعملية إرهابية في المدينة، لا يتوصّلون إلى الاتّفاق على هدفها، بينما مينو، صديقة الراوي، تبحث عن عمل من دون جدوى... سكّان المدينة غرباء عنها وغريبون فيها. حتّى الألمان. ليس بفعل المدينة وتاريخها فحسب، بل بحكم الإنسانية المعاصرة، التائهة في غربة دائمة تطاول مختلف أبعاد الوجود. هذا ما يحفظ الكتاب من أيّ قراءة نمطية. لا تقتصر الغربة هنا على إشكالية هجرة المسلمين إلى الغرب واندماجهم. العرب والأتراك والألمان والأوروبيون كلّهم يبحثون في الغربة عن الدفء، وفي الغرابة عن الألفة، وفي اللغة عن وطن. كلّهم يجوبون برلين، ويقاومون فيها انحلالهم البطيء.
ولعلّ وصف هذا الانحلال الجسدي أغرب ما في الكتاب من مجازات: ساق مينو اليسرى أصبحت شفّافة، أضاعت فتاة وجهها فلم تعد تراه إلّا على الصور الفورية، شابّ آخر ذو فجوة في صدره... إلّا أنّ الانحلال سرعان ما يفقد غرابته، عندما تفقد فتاة في قصّة أخرى «وشيشها» الداخلي الّذي كان يُشعرها بوحدة ذاتها، أو عندما يتخوّف رائد الفضاء من العودة إلى الأرض، خشية أن يترك ما تسرّب من ذاته مشتّتاً في الفضاء. ندرك أخيراً أنّ الانحلال هو ما نتشاركه جميعاً، بدأ يوم ولدنا ويستمرّ طوال حياتنا، ويُغذّي هواجسنا. عندها، نصبح نحن أيضاً من أشباح برلين الهائمة، نستمع إلى الموسيقى في باراتها، نطوف في ميادينها، ونرتاد جسرها العتيق الفاصل بين حياتنا المرئية والأخرى غير المرئية.
بشخصيات متردّدة بين بالومار وبارتلبي، يتنقّل الورداني بنا من ميادين الغربة إلى مرافئ الحميمية في تسع قصص قصيرة كالحياة وكالمسافة بين القاهرة وبرلين، وبيروت وساو باولو، وكلّ مدن العالم في قلب مؤلّفها.