كثّف الكاتب والباحث في علوم الإسلاميات الطاهر أمين في كتابه «بؤس الثورة» ما يعتمل في رأس المثقف التونسي والعربي بعد الثورات، وما قد تفتحه من سياقات وجودية في هذه المنطقة الجغرافية، التي باتت تشبه مرجلاً لا يتوقّف عن الغليان. الكتاب الذي صدر أخيراً عن «مطبعة فنون الطباعة» في تونس، لا يمكن تصنيفه ضمن الأعمال التأريخية للثورة التونسية الأخيرة، كما أنّه لا يندرج في جنس أدبي محدّد، بل ينهل من المعين الفلسفي والتاريخي لمفهوم الثورة، وتأرجحها بين السيرورة والصيرورة. يشبه منجز الطاهر أمين هذا ما سمّاه أومبيرتو إيكو «الأثر المفتوح». اشتغل فيه على اقتناص اللحظات الفارقة في المسار الثوري، وتكثيفها، مستدرجاً القارئ إلى التشكيك في هذه الثورة التي «يعيشها العربي بتفاؤل أسطوري غير مسبوق».
يبدو هذا الكتاب للوهلة الأولى كأنّه تداعيات حرّة لكاتب مأزوم «لم ينتفع من خيرات الثورة». غير أنّ قراءة متأنية للمتن ستكشف لنا أنّ «الثورة ليست إلا الإطار الأنسب لتعميق المعرفة بالذات»، كما ينبّهنا الطاهر أمين محاولاً أن يجعل من كتابه، تجربة جادّة للاكتشاف في مرايا الثورة المتعدَّدة. لهذا على الأرجح، تعدّدت المراجع الفلسفية والمعرفية التي اعتمدها في بحثه من ملحمة التكوين السومرية البابلية، إلى حشد هائل من الفلاسفة والمفكرين، على غرار ميشال سيوران، وغوستاف فلوبير، وأديب ديمتري، وكارل ماركس، وهيغل، وإنغلز، وجورج صاند، وسان سيمون، ونيتشه، وفوكو وغرامشي...
يُلحق الكاتب حالة البؤس بالثورة لقناعته بأنّ الربيع العربي ليس إلا وجهاً من أوجه أزمة الديموقراطيّة في العالم. وهي الأزمة التي جعلت الغرب «يشرّع» تدخّله في الشأن السياسي العربي. ويصف الكاتب ما يحدث الآن بأنّه «فتوحات يفتخر بها الغرب». غير أنّ السؤال الجوهري الذي ينبثق عن هذه المعادلة المختلّة هو: من سيحمل عن العرب إرث الاستبداد الشرقي الذي مثّل «إضافتهم» الحضارية، بعدما أخرج الغرب «الإنسان الطيّب» من «مارستان الأفكار الحديثة» وفق نظرية نيتشه؟ يطرح الطاهر أمين ترسانة ضخمة من الأسئلة، مشيراً إلى أنّ ما نعيشه اليوم ليس إلّا حروباً أهليّة. ويرى أنّّ الربيع العربي هو نتاج «الصحوة الإسلاميّة»، منبّهاً إلى أنّ التسامح سيكون الخاسر الأكبر في ظلّ تعاظم دور الدين.
كأنّ الليبرالية تجتهد بحسب الكاتب في تأبيد حالة الفقد والتضليل. لذلك، فهو يحرضنا على الإفلات من اقتصاد السوق وسلعنة الإنسان، لئلّا نقع في منطق تحويل الثورة إلى صنم يباع في السوق الاستهلاكية.
وفي مقاربته لـ «بؤس الثورة»، مثّلت الثورة الفرنسية مثالاً عاد إليه الباحث التونسي مراراً للسخرية من الثورات العربيّة، لناحية غياب أي مشروع ثقافي متكامل ينهض بها، معلّقاً على تسمية «ثورة الشباب» التي أطلقها شيوخ النظام السابق على الثوار الذين تظاهروا في الميادين.
في الخلاصة، يكثّف الباحث يأسه من «ربيع الثورات العربيّة»، وبصورة كاركاتوريّة. يخيّل إليه أننا أمام شريط هوليوودي ذي سيناريو مكتوب بإحكام، لكن بمونتاج رديء، وخصوصاً أنّ المتطفلين والغوغائيين يتناسلون بفضل ما يسميه الكاتب، «صحافة الدجل الثوري». وفي خاتمة الكتاب، يحيلنا على سؤال أدونيس الشهير، الذي كتبه في عمله المرجعي «الثابت والمتحوّل»، فليس الجوهري أن نصنع الثورة، بل الجوهري كيف نعيشها، وكيف نبقي الثورة لخدمة الإنسان، ولتعبئة الإمكانات القصوى باتجاه تفتّحه وتحرره.