هذه كتابة من صنف الضحك المداف بالوجع، مصلوبة الليلة فوق صورة استعادية، وقعت على مبعدة من منتصف تسعينيات القرن البائد، حين حطت كمشة حقائب جديدة في واحد من زواغير ربة عمون في جبل اللويبدة في عمان: جان دمو، ونصيف الناصري، وهادي الحسيني. إنّها صورة أرسلها صاحبي الشاعر الملحن المغني سعد الصالحي. بدا أنّ مكان الصورة مقهى «السنترال» الذي يرتفع كوشر أشبار فوق طقطقة مواعين فول هاشم المشهور، وعياط أبي عرب المحبب. هناك، كان الناس يسهرون حتى الفجر وترتيلة فيروزية مبهرة «صبح الصباح، فتّاح يا عليم، والجيب ما فيهشي ولا ملّيم، بس المزاج رايق وسليم، باب الأمل بابك يا رحيم». في الصورة، يظهر علي عباس علوان (هو الآن في البصرة)، وعيسى حسن الياسري (كندا)، وسعد جاسم (كندا الآن) وحازم لعيبي أخو شاكر لعيبي (أميركا)، وهادي الحسيني (النرويج)، وأنا (عمّان حتى الآن)، وواحد اسمه صباح (أستراليا الآن) وجان دمو (يسكن قبراً مرمياً في أستراليا حتى اللحظة). لم تتبدل حياة جان هنا عن حياته في بغداد. صعلوك نبيل حاف، لكنه كان مستعداً لأن يمنحك قميصه الوحيد كي تشتري بخراجه لفّة فلافل، أو ربعية عرق موّال لكن ليس لصبغ قندرة حتماً. كان تلقائياً متناغماً مع ذاته. هو من صنف الكائنات المسالمة التي لا تدوّخ رأسها بهاونات الأسئلة الكونية الثقيلة. لم يقم بشغل يستدعي جهداً بدنياً. جلّ كدّه وكدحه الفكري وقع في باب الشعر والترجمة والتنظير الشفاهي، ولم يترك خلفه أثراً سوى مجموعة شعرية صغيرة، كان عنوانها في أصل المخطوط «أسمال الملوك». ثم انشالت مفردة «الملوك» من العنوان، وبقيت «أسمالهم». طبعت «أسمال» جان. طبعة شعبية في «دار الأمد» في بغداد العباسية، وصاحبتها الطيبة حكمية الجرار. حين حلّ جان دمو بعمّان، صار يغزو شهرياً بيت حكمية في جبل الحسين، مطالباً إياها بربح الكتيّب الذي لم يبع، بطريقة جميلة، ليس بمقدورك أن تردّها، حتى لو كان قلبك من حجر. في واحدة من فلتات جان وكشفاته، ثمة بيت مهجور منزرع فوق احد منسرحات جبل اللويبدة، اتخذ منه والصعاليك، مأوى آمناً. هو ونصيف الناصري، وهادي الحسيني، وإياد صادق، ورضا ذياب. صارت تلك الدار مزاراً ومناماً مشاعاً لمن لا منام تحت يمينه، أو هو من صف الصعاليك. لا أحد يعرف من هو مالك هذه الدار. ثمة ثقب عال في جسد أحد حوائط الملاذ، تنزل منه مياه عذبة لا تعرف منابعها. أحدس الآن أنّه من منسيات دفتر الغفلة. ثمة شجرة ليمون ضخمة تكلكل كما أمّ حنينة، على براميل الماء التي تنترس من دفق ثقب الجبل المريب. سلام على الربع كلّهم. سلام على البلاد التي نفتقدها وهي نائمة بين الأضلع. سلام علينا، وقد صيّرتنا الليالي كتبة مراث توجع القلب وتقصّر العمر.* كاتب عراقي