مرة ثالثة، يذهب هشام البستاني إلى الخروج عن المألوف. في كتابه الجديد «أرى المعنى» (دار الآداب)، تنزاح النصوص عن تصنيفها كقصص، لتتماهى مع الفنون الأخرى. يعلو صوت الشعرية، في حين تنسحب عناصر القصة الكلاسيكية من مسرح الأحداث.
تترسخ قناعات البستاني الأدبية في عمله الثالث. وما كان يوصف بالتجريب في كتابيه السابقين، بات سمة تطبع نصوص الكاتب الأردني الشاب (1975) الذي يتفلّت من الرائج والمتوقع. يتخلى عن التقنيات القصصية المعروفة في سبيل حداثة نصّه. يلجأ إلى السينما والرسم والأخبار الصحافية في محاولة للانتقال من كتابية النص إلى بصريته. يحيل البطل والحبكة والزمان والمكان إلى التقاعد، ساعياً إلى هدم مفهوم الحكاية وإعادة بنائه من جديد. هكذا، لن يجد البستاني مشكلة في تحوير قصة شعبية وقلب مدلولاتها، خدمةً لكسر اليقينيات في كتابه «ليلى والذئب»، سنرى أن الجدة الماكرة هي من تستدرج الذئب البريء إلى سريرها! لكن، هل يكفي الخروج عن المألوف ليكون العمل ناجحاً؟ تبقى الإجابة معلقة لغاية اتخاذ موقف من «نوع» الكتاب. على الغلاف، يصف صاحب «عن الحب والموت» (الفارابي ــ 2008) نصوصه بأنها «سرد، موسيقى، أو قصص على تخوم الشعر».

إذاً، لا يتخلّى البستاني عن كونه قاصاً، وكون ما يكتبه قصصاً، وإن كانت تتوسل الشعر والموسيقى والتشكيل. لكن، عند دخول عوالم الكتاب، سننسى أننا نقرأ مجموعة قصصية.
«أرى المعنى» ديوان شعر بامتياز. سننحاز إلى هذا، بفضل طغيان الشعرية على لغة الكتاب، واستئثار المؤلف بتقنيات قصيدة النثر في بناء نصوصه: «لن يفهموك/ ستظلّ تعجن الماء حتى تصير تراباً/ وحين تبعثرك الريح في أربع جهاتها/ تبقى يافطة الكولا المعلقة فوق قبرك تومض بلا انقطاع». لكنّنا بقراءتنا هذه، لن نعطي البستاني حقه الذي يريد. ربما، لم يتوقع صاحب «الفوضى الرتيبة للوجود» (2010) أن اجتهاده للخروج عن السياقات القصصية البائتة، سيدخله في السياقات الرائجة للقصيدة المعاصرة. الومضة، وتسخيف الحالة الشعرية، وتعريف عناصر الطبيعة (كالشتاء)، واستنطاق الأخبار الصحافية اللافتة ... كل هذا الذي يذهب إليه البستاني، بات روتيناً مستهلكاً لدى شعراء قصيدة النثر الجدد. لكن مع ذلك، إذا قرأنا الكتاب باعتباره مجموعة قصصية، فسنجد أنه يضيف شيئاً جديداً للقصة المعاصرة. تجربة البستاني حداثية وملتبسة، كلما ظننّا أنها ثبتت في مكان ما، وجدناها تقودنا إلى أماكن أخرى.