من يتابع مشوار المخرج المصري خالد الحجر (1963)، يجد أنه أقرب إلى مخرجي «الاستوديو»، أي ذلك النوع الذي يعمل بمنطق الاحتراف، كأنه يؤدي مهمة باردة في إخراج أنواع وألوان سينمائية متباينة. الحجر الذي بدأ مشواره من مكتب السينمائي الراحل يوسف شاهين (عمل مساعداً للإخراج لفترة)، اكتسب المنطق الاحترافي في العمل من هذا المكان، أو بمعنى أدق تلك الأكاديمية، ولكنه فقد إحدى أهم الصفات التي يحملها تلامذة شاهين، أي الروح الثورية وحسّ التمرد على الثوابت والتقاليد.
قد تكون محاولات الحجر الأولى في أفلامه كـ «أحلام صغيرة»، قد حملت هذه البذرة، فهو في النهاية ابن السويس، إحدى مدن القناة التي تُعَدّ رمزاً لمقاومة الاحتلال الإنكليزي لمصر.
عانى الحجر من التهجير مثله مثل آلاف الأسر التي كانت تسكن هذه المدن، وظهر هذا جلياً في فيلمه «أحلام صغيرة» (1993). لكن تجاربه التالية جاءت أقرب إلى الأفلام التجارية، أو أفلام النجم، منها «حب البنات»، أو «ما فيش غير كدا»، وصولاً إلى «قبلات مسروقة» و«الشوق».
في هذه التجارب، تعامل الحجر مع منتجين متنوعين داخل السوق المصرية، ومؤلفين مختلفين، وابتعد كثيراً عن سينما المؤلف التي أثار الجدل من خلالها.
في جديده «حرام الجسد» (2016) عاد الحجر إلى شركة «أفلام مصر العالمية» وأنتج له غابي خوري ابن شقيق يوسف شاهين فيلمه. شريط أثار الكثير من الجدل منذ أن كان سيناريو، إذ رفضته الرقابة المصرية بدعوى أنه يروج لـ «زِنى المحارم». علماً أنّ السيناريو الأولي كان مبنياً على علاقة زوجة بشقيقين، فاشترطت الرقابة تغيير الحبكة، ودخول الزوجة في علاقة مع ابن عم زوجها.
«حرام الجسد» من الأفلام المختلفة تماماً عن نوعية السينما التي تعرض في موسم الربيع. يبدو أن بعضاً من أحداثه وبنائه مستوحى من نصين مسرحيين هما «عربة اسمها الرغبة» للأميركي تينسي ويليامز، و«جريمة في جزيرة الماعز» للإيطالي لأوغو بيتي. وبينما قدِّم هذان النصان في معالجات مختلفة في السينما العالمية والعربية، جاء نص خالد الحجر مرتبكاً ومربكاً في آن واحد، فهناك دراما تستطيع أن تراها وتتعامل معها بمعزل عن كل ما يدور حولها، كما هي حال النص المسرحي، حيث لا زمان ولا مكان. ولو كان المخرج قد اكتفى بذلك، لكان سهلاً التعاطي مع الفيلم على أنه مجرد حالات إنسانية تعيش في تلك البقعة المنعزلة في صحراء مصر.
حسن (محمود البزاوي) فلاح أنهك مرض السكري جسده، متزوج فاطمة (ناهد السباعي) تلك المرأة اليافعة والممتلئة بالرغبة. حسن غفير لمزرعة أحد الأغنياء، يعيش حياة هادئة بين عمله وعجزه الجنسي، وفاطمة مستسلمة لحالها ونصيبها، تعمل على كبت رغبتها، حتى لا يشعر زوجها بشيء.
حالة الارتباك سيطرت أيضاً على الشكل الإخراجي والرؤية البصرية

إلى هنا الخط الدرامي واقعي. لكن بعد أن يظهر علي (أحمد عبد الله محمود) الهارب من السجن في «جمعة الغضب» الشهيرة إبان «ثورة ٢٥ يناير»، لا يجد مأوى إلا عند ابن عمه حسن. نعرف من سياق الأحداث أن علي وفاطمة كانت تجمعهما علاقة غرامية، وأن علي دخل السجن بعدما قتل شاباً كان يتحرش بفاطمة، ولم يصدق علي أن فاطمة حبيبة عمره، التي دخل السجن لأجلها، صارت زوجة لابن عمه. إلى هنا تبدو الحبكة طبيعية، عادية بل شديدة التقليدية، وسبق أن شاهدنا الكثير من المعالجات التي تدور حول هذا المثلث.
كان سهلاً على خالد الحجر، لو اكتفى بهذا، أن يقدم دراما إنسانية عن العجز والقهر والرغبة في الحياة. وقد يلتمس بعضنا العذر لفاطمة التي لجأت إلى أحضان علي حبيبها، هرباً من عجز زوجها، أو لتستعيد حب عمرها. لكن الحجر قرر وضع إطار زمني للأحداث، بدءاً من «جمعة الغضب»، وما حدث في الشارع المصري بعدها. هكذا، أصبحت الأخبار السياسية، في خلفية الأحداث. ليس ذلك فقط، بل إنّ المهندس الثري صاحب المزرعة (زكي فطين عبد الوهاب) له ابن ثوري ومتمرد على والده، يهرب تكراراً من شباك الفيلا ليشارك في تظاهرات ميدان التحرير. لذلك، إذا فكرنا في ربط الأحداث السياسية، بطبيعة العلاقات بين فاطمة وعلي وحسن، سنجد: فاطمة هي مصر المقهورة والمكبوتة، وعلي الشاب اليافع الذي دفع ثمن حبه لها، وحسن هو الشعب العاجز عن فعل شيء، إلا إذا أخذ حبة فياغرا ليتمكن من إقامة علاقة حميمة مع فاطمة. حبة أعطاها له المهندس الثري صاحب المزرعة المتحكم بكل الأمور. يذهب حسن ضحية الفياغرا ويكاد يصاب بأزمة قلبية لأنه تعاطى حبتين: مرة واحدة، وهي اللحظة التي ينقضّ فيها ابن عمه علي عليه بدلاً من مساعدته ويكتم أنفاسه بمساعدة فاطمة، فيما المهندس المتواطئ والمتحكم يعرف بالعلاقة بين فاطمة وعلي، ويعرف أنهما قتلا حسن، فيستغل ذلك للسيطرة على فاطمة واستغلالها جنسياً إلى أن تحمل فاطمة وتلد ذكراً لا نعرف ابن مَن هو: علي أم المهندس؟
الفيلم في جزئه الأول تقليدي، لكن في جزئه الثاني يحمل كمّاً من التلفيق والصدف، إذ تاه المخرج في ما يرغب بنقله لنا، وجعلنا نتوه معه في كمٍّ من الأحداث الميلودرامية والحيرة بين الانتصار للنهايات الأخلاقية والعكس. بدا كمن رقص على السلم، فلا هو صنع فيلماً درامياً تقليدياً، ولا قدم عملاً يعكس حال مصر بعد «جمعة الغضب». والكاسب الوحيد من هذا العمل هو الفنان المخضرم محمود البزاوي الذي قدم أداءً متميزاً لشخصية حسن، وبدت ناهد السباعي أقل توهجاً، خصوصاً أنّها لم تغير نمط أدائها كثيراً. حالة الارتباك سيطرت أيضاً على الشكل الإخراجي للعمل والرؤية البصرية، بينما تميزت المشاهد التي صوِّرت بليل خارجي، وجاءت باقي المشاهد خالية من أي حسّ بصري مميز.