كتابا عباس بيضون الصادران تباعاً عن «دار الساقي» في بيروت، أي «مرايا فرانكشتاين» ومن ثمّ «ألبوم الخسارة» يجمعان نصوصاً ولحظات نثرية وسردية تتدفق من بؤرة توتّر حميم، يمكن وصفه بأنه استثنائي على غير صعيد. البؤرة تتلخص في تساؤل كبير ذي طابع فلسفي يطرحه المرء على نفسه مع تعاظم اعتقاده بأنّه بات في لحظة غروب حتمي، أو في منتصف ليل حياته ما دام قد دخل خريف العمر، ووصل إلى الضفة الأخرى لحياته. سؤال من نوع: ما الذي صنعته طوال هذه السنوات بوقائع وندوب وذكريات شتى؟ وما عساني كنت وأكون وسط هذه كلها؟
في «ألبوم الخسارة»، يخيّل للقارئ أنّ الشاعر والكاتب اللبناني الألمعي يستأنف رحلته التذكرية أو سياحته الداخلية والذاتية بحثاً ليس فحسب عن زمن مفقود، بل أيضاً عن قوام حياة ووجود كاملين يبدو أن ماهيتهما غير مستقرة. استثنائية هذه النصوص تعود، في ما يتعدى جمالية الجرأة الأدبية ورهافة الكتابة، إلى أن ما تختبره الكتابة هنا من أمر غير معهود في تنويعات الأدب الدائر على كيانية الفرد وعلى السيرة الذاتية. لنقل إننا حيال رحلة إلى أقصى الفردية، أي بالضبط إلى حيث يتذرر كل شيء ولا يبقى هناك من قوام للفردية سوى شبهتها كما لو أنها شائعة أو تعويذة.
من زاوية النظر هذه، يسعنا القول إنّه بات لدينا ما يسمح بأن نقيس عليه تحولات فكرة السيرة أو الترجمة بحسب مصطلحات كتاب التراجم والأخبار وتوزيعها على أصناف و«طبقات» مهنية أو موقوفة على نشاط ووظيفة معينين، لكننا لن نتوسع في الموضوع، لأنه شرح يطول. سنكتفي بالقول إنّ نموذج السيرة أو الترجمة، وخصوصاً في العهدين المملوكي والعثماني، كان يعتمد على منظومة محدودة من العبارات المقتضبة والشديدة الترميز من نوع «قرأ على..» أو «جلس إلى..» أو برع في المعقول أو المنقول... وكانت السيرة تصف باقتضاب تنقلات الشخص ومكانته داخل أطر ومواقع معروفة من قبل، وسابقة عليه، لا يمكن من دونها الاستدلال على الصفة الاجتماعية للشخص، ولا التعرف إلى لمسته الخاصة التي قد يتميز بها عن غيره. ما تفعله السيرة «التقليدية» هو تثبيت ملامح وسلوك شخصيين داخل أطر اجتماعية، قرابية وعائلية وجغرافية محلية أو مهنية أو طرقية صوفية أو مشيخية مع أنسابها وتسلسلاتها وهي مرشحة كلها، بالأحرى مدعوّة إلى البقاء قبل الشخص وبعده. في هذا المعنى، تتراسل السيرة مع نمط ذهني ونشاط وظيفي متوارث ومنتشر، تعبّر عنهما فكرة «الوقف» العائلي أو الأهلي أو الخيري. السيرة هي نوع من «الوقف» الثقافي والسوسيولوجي، في المعنى العريض للكلمة. هذا النموذج بدأ يهتز في القرن التاسع عشر، بفعل الاحتكاك بالغرب والاقتباس عنه، لكن أيضاً بفعل إحياء أدبيات تراثية أهملتها وطمستها ثقافة تقليدية مشغولة بتثبيت الأطر والحفاظ على قدرتها على استقبال الأفراد الجدد، وعلى دمجهم فيها gيحققوا انتماءهم إلى «الأمة» والجماعة العريضتين بتوسط شبه حصري لهذه الأطر بالذات.
من علامات التبدّل الطارئ على قوام السيرة أن يتوسع كاتب الترجمة والسيرة الذاتية في تشخيص أطر الانتماء بوصفها مدار مشكلات يكابدها الفرد المتشوق إلى الانفكاك عنها بالطريقة التي تناسب حساسيته ومزاجه. نجد هذا ليس فقط في كتب «المشاهير» والمجددين و«زعماء الإصلاح» بحسب عناوين أعمال معروفة لجرجي زيدان وأحمد أمين مثلاً، بل أيضاً في نصوص السير الذاتية. نلمس هذا التحول في السيرة الذاتية للشيخ محمد عبده، وبدرجة أقل لدى علي باشا مبارك صاحب «الخطط التوفيقية». وقد بلغ هذا التحول مداه في كتاب «الأيام» لطه حسين، وفي نصوص لتوفيق الحكيم والمتأثرين بهما.
في هذه النصوص لم يعد موضوع السيرة وصف سمات أو دمغات متنوعة ومشخصنة لانتماء الفرد وانضوائه في إطار يحفل بطقوس وممارسات وأعراف متوارثة بلا انقطاع. صار الموضوع وصف تنقّل صاحب السيرة بين مشكلات ومسائل وانقطاعات مقلقة. وها هنا نقع على شتى التنويعات في هذا التوصيف، بحيث تراوح بين التظلم والشكوى والانتفاض والسخرية والازدراء، وبين المجاملة والتكتم والحذر. والحال أنّ هذا التبدّل في قوام السيرة وموضوعها لا يؤشر فحسب إلى إرهاصات بالمخاض العسير للفرد الحديث، بل كذلك إلى تولّد أحد شروط تكوّن الرواية العربية الحديثة.


ليس أمراً بلا دلالة أن يخلو الكتاب الأوّل، أي «مرايا فرانكشتاين» من عنوان فرعي للتعريف بالنوع الأدبي الذي ينتسب إليه النص، فيما يحمل الكتاب الثاني، أي «ألبوم الخسارة»، تعريفاً يشير إلى أنه «رواية». سنسارع إلى القول إن كلا الكتابين عصيّ على التصنيف. والمسألة مهمة ليس بسبب الحاجة إلى التصنيف في ذاته، أو حتى إلى تلمس درجة استقرار أو عدم استقرار السيرة كنوع أدبي قائم برأسه، بل خصوصاً لأنها تحيل على نمط من الكتابة اختص به صديقنا عباس. سنستبق التعليل لنقول إنها كتابة «برّية» وظاعنة، أي دائمة الارتحال ومتنها الفعلي هو في حركة التنقل التي تجمع بين رصد اللحظات واصطياد دلالاتها بطريقة خاطفة ومدهشة، والتأمل الشعري المنثور في مكنوناتها وروابطها الجوفية الخفية. يسعنا بالطبع، وبقليل من التساهل، أن نساير الكاتب في تعريف «ألبوم الخسارة» كرواية. نستطيع مثلاً أن نتذرّع بوجود شخصيات مثل القط «نينو» أو المرأة «إكرام» التي أعلن الراوي وجودها في كتابه السابق الذي لا يحمل صفة الرواية. لا مشكلة في أن يكون قط أو أي حيوان آخر شخصية روائية. هذا ممكن. نستطيع أيضاً أن ننسب العمل إلى ما يعرف بـ «الرواية الجديدة» التي لا تكترث للحبكة المعهودة، وتلاحق بعصب سردي مشدود لحظات ووضعيات هي شظايا حياة وكينونة تستجمعها الكتابة الروائية. نجد هذا لدى كاتب حائز «نوبل»، هو الفرنسي كلود سيمون، وخصوصاً في روايته «حديقة النباتات». يتحول السرد المتدفق والمتوتر إلى ما يشبه تفريغ حمولة حياة وذاكرة بكاملهما. وقد قيل إن رواية سيمون تدور على تظهير صورة «بورتريه» عن الذاكرة ولها. على أنّ هذا كله يفترض أن الراوي يمتلك ذاتاً قائمة وناجزة بغض النظر عن مواصفاتها، وأنّ الكلام يصدر عنها. والحال أن مدار كتابي عباس هو بالضبط التباس العلاقة مع الذات وعدم استوائها، بل حتى استحالة امتلاكها. وهو يتعهد بذكاء وحساسية العارف هذه الاستحالة. يسعه أن يرصد ويتأمل في ثنيات ورضّات وتوثبات وتشققات ذات مفترضة، لكنها تبقى مفترضة ومحسوبة عليه أكثر مما هي له حقاً وفعلاً.
نرجّح أن يكون الكاتب مدركاً صعوبة تصنيف سرديته وحيرة القارئ حيال شعورين أو وعيين يتنازعان الذات وسعيها إلى تكوين صورة عن ماهيتها. الوعي الأول يلتقط ويستكشف، فيما الثاني يلاحقه بالمساءلة والحكم النقدي والاستخلاصات القيمية العريضة، التي قد تصلح لمواساة النفس المنقسمة والتائقة إلى بعض العزاء. وقد بثّ عباس في ثنيات كتابته البرية عبارات هي مفاتيح للقراءة. في صفحة مستقلة تتوسط تقريباً «ألبوم الخسارة» وتحمل عنوان «تغيير النهايات»، يقول الكاتب ما يلي: «أجد كثيراً من أشباه الذكريات، الذكريات التي لم أعشها أو الذكريات التي ليست لي تماماً أو التي هربت قبل أن تصبح شيئاً. أجد كثيراً منها وأفاجأ بأنها ما تزال كاملة هناك تنتظر فقط من يعثر عليها. في الخامسة والستين ليس علينا أن نقوم بعملية اجترار طويلة لحياتنا الماضية، يمكننا أن نكون أحراراً معها. يمكننا أوّلاً أن نبوّبها، أن نصنّفها في أقسام: أشباه ذكريات، ذكريات متخيلة، ذكريات عاطفية، ذكريات صحية، ذكريات سياسية، ذكريات عائلية... أن نضع خطة للتذكر لا تهتم بالتسلسل الزمني، لكنها أيضاً لا تهتم بالحقيقة. الأمانة، من يستطيعها حين يكون الآخرون زوّروا حياتنا. بقليل من اللعب وربما التزوير، نستردّ حياتنا لنا، نعيد امتلاكها. إننا نرويها لأنفسنا على كلّ حال، لماذا لا نغير النهايات؟ ما المانع أن نحكيها كقصص الأطفال التي طالما أحببنا تقليدها [...]. لا تكون القصص كذلك، لكن ما همني في الخامسة والستين كيف تكون».
ما نجده في «ألبوم الخسارة» هو أشباه شخصيات وأشباحها، في ما يخص القط «نينو» بشفته المشرومة وعينه الجريحة وهرمه المتسارع، يبقى السرد مشدوداً إلى العلاقة «المرآوية» [نسبة إلى المرآة] التي يقيمها الراوي معه ويتوسل بها للحديث عن صورة هرمه. كذلك الأمر مع إكرام، التي يروي أشياء عن عالمها، لكنها تبقى مناسبة للكلام عن تربيته الجنسية والعاطفية. هذه الشخصيات ذرائع لتقليب وجوه علاقة غامضة وشبه مستحيلة مع الذات. وليس مصادفة أن يحمل الكتابان عنوانين يحيل أولهما على ضياع وتشوهات صورة الذات المفترضة، فيما يحيل الثاني على تفحص وجوه خسارة وفوات معلنين.
تولّد النصوص عن علاقة مرآوية يقودنا بالضرورة إلى «نرسيس»، الذي يتملّى صورته في الماء ـــــ المرآة طامحاً إلى تعظيمها والانتشاء بها. وهذا ما جعل صفة النرجسية المشتقة من هذا السلوك الدائر على الذات الممتلئة بنفسها صفة سلبية. والحال أنّ ما نجده في كتابي عباس ليس نرجسية مقلوبة فحسب: إنها نرجسية نقيض إذا جازت العبارة. ما يتبدى في مرايا عباس هو سلسلة من تشوهات ذات مفترضة وانزياحاتها وسقطاتها وعثراتها وضياع ملامحها. هكذا تصبح السيرة الذاتية مداراً لتفحص العلامات والشواهد على ما يتبدد ويتلاشى ويذوب: الكينونة طلل. صحيح أن الكاتب يستجمع الشروط الشكلية للسيرة الذاتية، كاعتماد النثر والتطابق بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسية، على أن العمل يبقى مخترقاً بنفس شعري يلف السرد والتأمل والتساؤل. فيه بالتأكيد شيء من السيرة المتخيلة، لكنه يبقى بقوة النبض الشعري أقرب إلى أن يكون تطبيقاً لمقولة شاعر كبير، هو رينيه شار، أنّ الشعر لا يقيم إلا في الأمكنة التي نغادرها. فلننظر، مثلاً، إلى ما يرويه الكاتب عن صدمة شعوره بانفصال صوته عنه: «في الثالثة عشرة سمعت لأول مرة صوتي في المسجلة. لم أكن فكرت من قبل في هذه الإمكانية. كان هذا الصوت هو غير الصوت الذي يصعد إلى أذني حينما أتكلم وأستحليه وأجده شبيهاً بي وبكلامي، بل سمعت من المسجلة صوتاً آخر يشبه المسجلة أكثر مني. [...] هذا الصوت ليس بالتأكيد صوتي، بل ليس الصوت الذي سمعته طوال طفولتي مع أنه ليس لي صوت سواه. [...] لا أعرف متى بدأت أكره هيئتي. كنت طفلاً جميلاً بشهادة أمي، لكن مع المراهقة بدأ يخرج من الملامح اللطيفة عكسها. طال الوجه حتى غدا كالحذاء، وتضخم الأنف وقسا الشعر حتى غدا كالبلّان. لم يعد هذا الوجه شبيهاً بي وصار عليّ أن أتحمله كعقوبة ما.{...}. أفكر أن هذا ليس وجهي الحقيقي وذاك ليس صوتي الحقيقي، لكن كيف يمكن أن يكون لي وجه آخر وصوت آخر؟». يفصح هذا الكلام عن شعور فجائعي بفقدان التشابه وربما التطابق بين الذات ونفسها. هذا الفقدان مصدر وجوه التحسّر والتأسف والتأسّي التي تولّد مناخاّ مأتمياً وجنائزياً لا عزاء له. ولا يفيد في شيء أن نقول للكاتب إن كثيرين يجدون أصواتهم في المسجلة أو عبر الهاتف مختلفة عما يحسبونه صوتهم. ولا يفيد أن نلفت النظر إلى أن عدم التشابه يعود ربما إلى تدفق هورمونات الذكورة التي تجعل صوت الفتى يخشن ويصير أقرب إلى «الوعوعة». ذلك أن مقصود الكاتب، بالأحرى ضالّته، هو شيء آخر. إنه التعبير عن شعور عميق بفقدان التشابه بين ذاتين اثنتين مقيمتين ومتنازعتين داخل النفس الواحدة. سبق لفيلسوف فرنسي معروف، هو ميشال فوكو، أن رأى أنّ دون كيشوت هو «بطل» الذات أو النفس الواحدة، وأن حروبه المتخيلة هي تعبير عن رفضه لفقدان التشابه بين الكلمات والأشياء، بين ما ترويه كتب الملاحم والفروسية والمآثر الكبرى وبين موت البطل في أزمنة النهضة والحداثة الأوروبيتين. وفي مسعاه إلى استعادة التشابه المفقود، وضع دون كيشوت أسس الرواية الحديثة. هناك شيء من الدون كيشوتية في عمل عباس، لكنها مقلوبة تقريباً. فهي بلا بطولة وبلا نبرة رسولية. إنها دون كيشوتية وجودية حميمية. تزاحم الواحة والصحراء في قلب واحد، في كينونة واحدة.
في أشباه الذكريات التي يرويها عباس بقدر ما يتأمل فيها، لا يفلت شيء من المكاشفة والمساءلة والنقد والشك. فهو يستهل المقطع الثالث من «مراياه» بالقول «في السابعة والعشرين حضرت أول عيد رأس سنة، كان هذا أيضاً أول حفل لي من نوعه»، لكنه يستدرك بعد صفحة واحدة يتحدث فيها عن سهرات غرامية راقصة لا تعدم انتهاك أعراف وتقاليد، مقوماً ما كان يحسبه كثيرون وصفة حداثية: «لم يكن في الواقع أول عيد رأس سنة أحضره، قد يكون الرابع أو الخامس، لكن العيد كان جديداً عليّ، بل كانت سهرة العيد التي تضم جمعاً غير متعارف بالضرورة ولا تجمعه حال واحدة جديدة عليّ. كنا قد بدأنا من زمن نزدري فيه حياتنا ونكره أثناء ذلك مناسباتها وأعيادها، لم يكن هذا من أشخاص معدودين أو حتى نواة مثقفة فحسب، بل كان استعداد طبقة كاملة بدأت تكوّن فكرتها الخاصة عن الحياة المدينية. لم يكن في هذه الفكرة أي إبداع أو اقتراح، وكل ما فيها نبذ وتخل عن تقاليد اعتبرت بدون سبب عامية وبلا ذوق. هجرت هكذا تقاليد العرس وتقاليد الطهور وتقاليد الجنازة وتقاليد الصيام وتقاليد الموالد وتقاليد السيران والرحلة... وبالطبع تقاليد الأعياد. لقد بدا أن النضج والتعقل يقتضيان الحياة من دونها، وأن التمدين الحقيقي ينافيها. كنا نتخلى عن حياة قائمة بدون أي بديل من أي نوع. وبالتدريج صرنا عملياً بلا حياة، الأعياد نفسها حصرناها بالأطفال، واعتبرنا أن الرشد والبلوغ يرتبطان بالتخلي عنها. كانت مدننا مرتجلة وأشبه بمخيمات، أما حياتنا فيها، فغدت في النهاية عدداً من ضرورات البقاء لا أكثر». يندر أن نقع في أدب السيرة الحديث على حكم نقدي بهذه القوة ليس للحداثة في حد ذاتها، فعباس من أبنائها الطليعيين، بل لصورة تشكلها المضطرب وشبه العصابي في وعي فئات اجتماعية محدثة باتت حياتها بلا ركائز وبلا عمود فقري. وفي تقصيه النقدي لحدودها، يفتح نوافذ كثيرة للنظر في التعبيرات اللاشعورية لحياتنا، أي لأنتروبولوجيا ثقافتنا.
الحنين هو أيضاً أحد مفاتيح هذه النصوص العصية على التصنيف. إلا أن عباس يتخفف من رومانسية الحنين، مضفياً إليه شواغل وجودية. فهو يقول في «مرايا فرانكشتاين»: «حين تخليت عن شنتتي [نوع من الجلابية] عصر قلبي حنين قاس إلى الشنتة، وإلى شيء أكبر من ذلك، لا أعرفه، لكن بدا لي أني أفارقه مع الشنتة. [...]. سيعترضني هذا الحنين كل فترة من حياتي. كل قفزة ستخلف وراءها ماضياً جديداً لا عودة إليه». وحين غادر القرية إلى المدينة وهو في التاسعة من عمره «بدا لي أننا ننتقل دائماً إلى شيء أضيق. جعلني البنطلون مرئياً أكثر ومسؤولاً أكثر ومراقباً أكثر. أخرجني من الإغفال الواسع الذي خلت أن الشنتة تضعني فيه، وها هو الانتقال إلى المدينة يجعلني مجدداً تحت العين، ولن يكون بعد في وسعي أن أختفي بالقدر نفسه، أو أسوح على راحتي. الحنين كان أيضاً لعنتي أو هو طبيعتي الثانية التي أتناساها إلى أن تداهمني مجدداً وتملأني خوفاً من نفسي. [...]. أقول في نفسي كيف يستطيع الإنسان أن يترك إلى الأبد شيئاً ما، أي شيء. أتخيل أن في هذا ذهاباً في العدم إلى لا عودة. حين لا يكون هناك أقل فرصة لبقاء أثر ما، حين لا يعود هناك سوى التبدد الكامل».