باريس | أيّ لوثة هذه التي أصابت عدداً من أبرز مثقفي وفناني اليسار المغاربيين؟ منذ قرابة عامين، نشهد موجة غريبة ومفاجئة من التنازلات التطبيعية من قبل شخصيات كانت بالأمس القريب في طليعة المناوئين للصهيونية والمناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني. وإذا بهذه الأسماء تقع تباعاً في الفخ الصهيوني، وتُستدرج جميعها إلى زيارة تل أبيب من البوابة ذاتها: السفارة الفرنسية لدى الكيان الغاصب.
بعد السينمائي الجزائري جان بيار ليدو الذي حلّ ضيفاً على «المعهد الفرنسي» في تل أبيب، في أيلول (سبتمبر) 2010، جاء الدور على اثنين من مواطنيه ورفاقه اليساريين (سابقاً)، هما الروائي بوعلام صنصال، والمغني الأمازيغي فرحات مهني، اللذين حطا الرّحال في الكيان الغاصب، خلال الشهر الماضي. وفي حين شارك الأول في معرض الكتاب في القدس المحتلة (الأخبار 12 أيار/ مايو 2012)، حل الثاني ضيفاً على الكنيست بوصفه «رئيس الحكومة المستقلة لمنطقة القبائل»!
قبل أن نفيق تماماً من وقع هذه الصدمة الجزائرية المزدوجة، ها هي المخرجة اليسارية التونسية نادية الفاني تُقدم على الخطوة المريبة ذاتها، لتشارك في ندوة حول «نضالات النساء في مواجهة الأصولية» ضمن ملتقى «الديموقراطية والأديان» الذي عقدته السفارة الفرنسية في تل أبيب (من 5 إلى 7 حزيران/ يونيو الجاري). قرار صاحبة «أولاد لينين» زيارة «إسرائيل» كانت فجيعته أشد وطأة على مثقفي اليسار المغاربيين. فهي تزعم أنها لم تتخلَّ عن أفكارها اليسارية، وأن «زيارتي لإسرائيل لا تتعارض مع دعمي للقضية الفلسطينية». أما باقي الكتاب والفنانين الذين وقعوا قبلها في الفخ التطبيعي، فجميعهم «يساريون سابقون» أصابتهم لوثة الليبرالية، وأغراهم بريق الشهرة والمجد الإعلامي الزائف في الغرب، فأداروا ظهورهم لنضالات شبابهم.
طوال ربع قرن، شكّل جان بيار ليدو حالة استثنائية في الساحة الثقافية الجزائرية. أصوله العائلية الهجينة (الإسبانية ـ الأمازيغية ـ اليهودية) جعلته مواطناً جزائرياً من طراز فريد. أما مثليّته وموقعه القيادي في «حزب الطليعة الاشتراكية» (الحزب الشيوعي الجزائري سابقاً)، فقد خوّلاه لعب دور مثقف عضوي انخرط في كل المعارك الفكرية والسياسية من أجل الحريات والديموقراطية في بلاده. إلى أن جاءت سنوات الإرهاب الدموية، خلال عقد التسعينيات، لترغمه على الرحيل إلى المنفى الباريسي. فإذا بعزلة المنفى تدفعه إلى البحث عن هوية بديلة، ليجد ضالته في الفكر الصهيوني! بعد الحرب العدوانية الإسرائيلية ضد غزة، نشر في كانون الثاني (يناير) 2009، نصاً ملتبساً جاهر فيه بصهيونيته، مندّداً بالانحرافات المعادية للسامية لأبناء بلده السابق الجزائر. اتخذ صاحب «الحلم الجزائري» من مقالة في جريدة شعبية جزائرية (الشروق) تقول إن «الله بشّر في القرآن بأن المسلمين سيقتلون اليهود جميعاً»، ومن فتوى لإمام سلفي مغمور (شمس الدين بوروبة) تشجع على «قتل أي يهودي أينما كان، لأنه دمه حلال على كل مسلم»، حججاً لتبرير الهمجية الإسرائيلية في أبشع صورها، كما تجلّت خلال عملية «الرصاص المصهور» في غزة. لم تمض أشهر قليلة، حتى أُعلن في أيلول (سبتمبر) 2010، أن جان بيار ليدو سيحلّ ضيفاً على «المعهد الفرنسي» في تل أبيب، لعرض ثلاثة من أعماله التوثيقية (ثلاثية المنفى الجزائرية ـــ 2003 ـ 2007). يومها، ناشده الكثير من رفاقه، داخل الجزائر وخارجها، التراجع عن الزيارة بوصفها «تنكراً لنضالات عمر بأكمله»، و«تبييضاً لدولة الاحتلال». لكن صاحب «حكايات لا ينبغي أن تُقال» كان قد عبر إلى الضفة المعادية، منذ أكثر من سنتين. خلال النقاش الذي دار بينه وبين جمهوره في تل أبيب، كشف ليدو أنّه سبق له زيارة الكيان الغاصب في صيف 2008: «أتيتُ إلى القدس في إجازة عائلية، واكتشفتُ بالصدفة أن سينماتيك المدينة المقدّسة تقدم عرضاً لأحد أفلامي، فدخلت وشاركتُ في نقاش مطول مع الجمهور دام إلى الواحدة فجراً...». لم يكتف جان بيار ليدو بالتنكّر لماضيه اليساري المناصر للقضايا العربية، بل عاد إلى الواجهة أخيراً، للعب دور «القوّاد»، خلال زيارة بوعلام صنصال المثيرة للجدل إلى القدس المحتلة. بعدما شجع ليدو صنصال على التمسك بقرار سفره إلى الكيان الغاصب، رغم موجة الاعتراضات التي أُثيرت في الجزائر، كتب مقالة مطوّلة بعد الزيارة أشاد فيها بـ«جرأة صنصال، وشجاعته في التصدي للنفاق الرسمي الجزائري». الذين تابعوا زيارة صنصال إلى القدس المحتلة، صُدموا بخطوته الملتبسة في زيارة جدار المبكى، معتمراً القبعة اليهودية، ومحاطاً بكاميرات التلفزيونات الفرنسية، حيث أدلى بتصريحات طفولية قال فيها إنهن فوجئ حين اكتشف أن المواطنين الإسرائيليين «أناس عاديون ومسالمون، بينهم أطفال رائعون يلعبون ببراءة في شوارع المدينة المقدّسة»! سذاجة سياسية أعادت إلى الأذهان الحجة الغبية التي برّر بها صنصال، عام 2008، رفضه مقاطعة «معرض باريس الدولي للكتاب» الذي احتفى بالذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، قائلاً: «أنا أمارس الأدب لا السياسة»! هذه السطحية التي تتسم بها رؤية صنصال السياسية ليست بالأمر المفاجئ. فيساريته وأفكاره الثورية المزعومة ليست في الواقع سوى ادعاءات متوهمة، حيث لم يُعرف عنه أي انتماء حزبي أو تنظيمي. لكنه يحاول، من خلال «يسارية فردية» التشبه بمثله الأعلى برنار هنري ليفي الذي يتشدق هو الآخر بأنه يساري، رغم أنه لم ينخرط يوماً في أي تنظيم حزبي أو نقابي!
أما فرحات مهني، الذي حلّ ضيفاً على الكنيست، بالتزامن مع زيارة صنصال إلى القدس المحتلة، فإنه يتحدر من صلب الحركة اليسارية الجزائرية. كان في السبعينيات والثمانينيات فناناً ملتزماً، غنى النشيد الأممي مترجماً إلى الأمازيغية واللهجة العربية الجزائرية (كلمات أحميدة عياشي)، واعتُبر أحد أبرز رفاق درب الراحل الكبير كاتب ياسين في صفوف «الحركة الثقافية الأمازيغية». لكن الخطوة التطبيعية الأخيرة ليست أول منعطف تحريفي في مساره. في العام 1986، امتنع عن أداء أغانيه اليسارية السابقة، مبرّراً ذلك بأن «الشيوعية كانت مجرد أزمة مراهقة بالنسبة إليّ»، ما دفع كاتب ياسين إلى الردّ عليه ساخراً: «أزمة مراهقة في الأربعين؟ إنه أمر جدير بالتحليل النفسي!». ثم توالت تحوّلات فرحات مهني: اعتزل الغناء سنة 1988، ليصبح عضواً قيادياً في «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» (حزب يميني جزائري موال للمؤسسة العسكرية الحاكمة)، ثم انشق عنه ليؤسس في المنفى، عام 2008 «الحكومة المستقلة للقبائل» التي تنادي بانفصال المناطق الجزائرية الناطقة بالأمازيغية...




ما قالته لـ «هآرتس»

عشية وصولها إلى تل أبيب، أدلت نادية الفاني بحوار لصحيفة «هاآرتس» كرّرت فيه الحجج الواهية ذاتها: «لا أزال أعارض صهيونية إسرائيل، ولم أبدّل آرائي السياسية»، لكن هذه التطمينات لم تمنع الصحيفة العبرية من التساؤل عن سرّ قرار المخرجة زيارة إسرائيل، وهي التي وقّعت بعد عدوان تموز عام 2006، عريضة لمقاطعة إسرائيل. أما رد الفاني على تساؤل الصحيفة، فجاء ملتبساً ومتناقضاً: «بعد التشاور مع أصدقائي الفلسطينيين (!) قرّرتُ أن أكسر عهداً كنتُ قد قطعته على نفسي، قبل سنوات، بألا تطأ قدماي إسرائيل»، قبل أن تضيف «ثم إنّ هذه ليست دعوة إسرائيلية، بل هي دعوة للمشاركة في ملتقى فرنسي».