يفتتح أحمد دلباني كتابه «قدّاس السّقوط: كتابات ومراجعات على هامش الربيع العربي» (دار التكوين ـــ دمشق) بعبارة مفصليّة هي «حانت ساعة الحسم: لا عاصم اليوم من أمر الثورة والتغيير». لكن نشوة الهتاف ستتلاشى تدريجاً أمام عقبات متراكمة لا تحصى في إيقاظ المومياء العربية من سباتها الطويل. ذلك أن العالم العربي حسب ما يقول، «ظلّ ضيفاً ثقيلاً على التاريخ، ونسيَ الترياق السحري الذي بإمكانه أن يبعثه من الرماد». هكذا يضع الباحث والكاتب الجزائري على الطاولة مشكلات بالجملة عاقت «بروميثيوس العربي» من سرقة النار ومواجهة «تكنولوجيا السلطة» التي حوّلته إلى دمية أو ببغاء. يفتّش أحمد دلباني عن «فولتير عربي» في شوارع الثورات العربية، فلا يجده.
ذلك أنّ المثقف العربي ـــ كما يقول ـــ لم يسهم في الانتفاضات الشعبية، ولم يمهّد لها، أو يواكبها على أقل تقدير، وذلك بسبب صمته عن انتهاكات الأنظمة الاستبدادية مقابل بعض الامتيازات، فسقطت أوهام الأنتلجنسيا بوصفها طليعة للتغيير. وينبّه إلى أنّ «قطع رأس الملك لا يصنع ثورة» من دون تحرير العقل العربي من الكوابح التي راكمتها الأنظمة المستبدة من خلال احتمائها بشرعية التلاعب بالمقدّس، وإلاّ فعلينا الخشية من عودة البرابرة.
لكن ما تكون الثورة في مجتمع لم يُنجز ثورته الثقافية بعد؟ سؤال آخر يطرحه صاحب «سفر الخروج» ولا يجد له إجابة أكيدة في ظل ثقافة بطريركية مهيمنة، ومجتمعات تثور على الحداثة وقيم الحريّة والفردانية و«تبشّر بمدينة الله ضد ما تسمّيه مدينة الفرعون». شهوة التماهي مع المقدّس، ووصاية المرجعيات في تأبيد الأب، والأصولية العقائدية من دون أن نشهد «عطلة الآلهة»، هي أبرز ما تواجهه الثورات العربية. وما ينبغي القيام به أولاً ـــ حسب مقترحات أحمد دلباني ـــ هو تفكيك سلطة المرجعيات وتعزيز سلطة الثقافة بوصفها طريقة لسُكنى العالم، وتوسيع طيف الهوية، فالهوية العربية الإسلامية ليست ابن تيمية والشافعي فحسب، وإنما هي ابن رشد والمعري أيضاً.
في فصلٍ آخر، يستعيد صاحب «مأدبة المتاهة» مشكلة السلطة العربية، مستعيراً خطوط الخريطة التي رسمها غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «خريف البطريرك» بقصد فحص صورة البطريرك العربي، وشرط حلول خريفه، ذلك أنّ أهواء الحاكم وحدها، ليست السبب في رسوخ الاستبداد الفردي. هناك جذور سوسيو ثقافية، أسّست للطغيان باعتمادها المخيال الشعبي في تجسيد صورة الفحل القائمة على ثنائية المقدّس والفحولة، وهما من علامات مجتمعات ما قبل الحداثة بامتياز. وتالياً فإن خريف البطريرك العربي، لن يكون ممكناً من دون خلخلة بنية المجتمع التقليدي وتفكيك ثقافته القائمة على المخيال الجاهز دوماً لمعاودة الظهور لحظة الأزمات مع التحديث الشكلي «خريف الطاغية لا يحلُّ بخلعه أو قطع رأسه فحسب وإنما بتغيير نظام العلاقات في المصنع الذي ينتجه: المجتمع التقليدي» يقول.
في «رسالة إلى مستبد عربي»، يذهب الخطاب إلى نبرة أخرى هي مزيج من الهجاء والسخط والإدانة، تصلح لأن تكون مونودراما غاضبة فوق خشبة لعروض مسرح القسوة: «فتنتكَ كلمة «لويس الرابع عشر»: «أنا الدولة»، فأردتَ أن تستعيدها في زمن أصبح من الواضح أنّهُ يمجُّها وينبذها. تقنَّعت بالشبق إلى الوحدة كي تخفي ريبتك من التعدد والاختلاف. كنت تستجير بالإكليروس العربي وتعقد زواجك المقدّس على الأبديّة في مواجهة فشلك الذريع في التحديث، وفي احترام حقوق الإنسان. لقد نعب الغراب على عرشك، وها نحن نشهد مجيء زمن هزيمتك».
يلفت أحمد دلباني إلى قوة حضور الطوطمية السياسية والثقافية في مفاصل المجتمع العربي، ولا يرى حلّاً للخروج من النفق إلا بتخلّي الدولة عن وظيفتها كوسيط بين السماء والأرض، وأن «تباشر عملها باعتبارها مؤسسة قائمة على عقد مدني يحمي حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وعلى رأسها حرية التفكير والتعبير والمعتقد»، وقبل ذلك الانخراط في شرط «الزمن الثقافي» الذي يقطع مع المرجعيات وهيمنة المقدّس للدخول في «عصر الشرعية السياسية الديمقراطية». هذه الشرعية التي تطيح نظام الوصاية والقمع والرقابة والإخضاع في الدولة الأمنية. المأساة العربية في أحد وجوهها إذاً، تكمن بين قطبي «الخوذة والعمامة» في لعبة قمع واستلاب فكري وثقافي مؤسّس على ذاكرة أسطورية وغيبية، ينتصر فيها «مكيافيللي على جان جاك روسو».
أزمة الفكر العربي المعاصر تتمثّل هنا، في غياب النقد الجذري والقطيعة المعرفية مع السائد، ما أدى إلى شلل هذا الفكر الذي اكتفى باستعارة منظومات فكرية وافدة، أزاحت الذات العربية جانباً، وإذا بالحداثة المستعارة تكتفي بخلع «الجبّة العلمانية المعاصرة على البنية القمعية القديمة، بعيداً عن روح الحداثة الفعليّة»، فنحن عمليّاً لم نشهد «قتل الأب» في الثقافة العربية، ولم نعش انسلاخاً عن «المرجعيات المتعالية عن التجربة»، ولم ننتج حداثتنا الخاصة، وإنما دخلنا العصر من بوابة الاستهلاك «مُصفدين بأغلال الروح القديمة وسيادة المركز المرجعي في الفكر والممارسة على السواء». الجملة الناقصة في الثورات العربية، وفقاً لما يراه صاحب «مقام التحوّل»، تتمثّل في سطوة مجتمع تحكمه علاقات الخضوع للقبيلة والطائفة والعشيرة، وهيمنة ذهنية التحريم والثأر الدموي في فضاء مدني «يُفترض أن الدولة تحتكرُ فيه العنف الشرعي».
ينبّه أحمد دلباني في أطروحته إلى خطر الثورة السياسية في ظل غياب الثورة الثقافية والعقلية التي «تناوش قلعة الواقع وتُفكّك سلطة المرجعيات المتآكلة» كي لا نقوم بإعادة إنتاج جديدة للأصوليات العقائدية والانغلاق الإيديولوجي المذهبي الذي اعتقل العالم والحقيقة في شباك النظرية. وكذلك يعرض في شذرات كتبها قبل بزوغ الربيع العربي تحت عنوان «نسق المغلق» مآل أفكار أدونيس حول الرؤية الوحدانية للعالم، والمصير المفجع للمفكّر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد في محاولته قطف الثمرة المحرّمة، بالإضافة إلى أحوال المثقف النقدي العربي ووظيفته في ظل انفجار الأصوليات والهويات القاتلة، في كتابات محمد عابد الجابري، وانسحابه من فضاء العمل التاريخي في توليد المعنى، وفقاً لمقولات محمد أركون.